الأربعاء، 25 يونيو 2014

كتاب الفوائد

كتاب: الفوائد
تأليف: ابن قيم الجوزية
دار النشر: المكتبة العصرية
دأب العلماء على جمع ما يستحسنونه – مما طالعوه في كتاب أو استفادوه من جليس أو نقلوه من شيخ أو انقدح في أذهانهم من فكر – في مجموع غير موحد الموضوع لكن عميم الفائدة. ومن جملة هذه الكتب التي ذاع صيتها، كتاب الفوائد للإمام ابن قيم الجوزية.
"قاعدة جليلة"
إذا أردت الانتفاع بالقرآن: فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضورك من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى:
(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)
وقوله: (لمن كان له قلب) المراد به القلب الحيّ الذي يعقل عن الله.
وقوله: (أو ألقى السمع) أي وجه سمعه، وأصغى حاسة سمعه إلى ما يُقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام.
فإذا حصل المؤثر وهو القرآن؛ والمحل القابل، وهو القلب الحي؛ ووجد الشرط، وهو الإصغاء؛ وانتفى المانع، وهو انشغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر.
"فائدة جليلة"
تفسير آية (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)
أخبر سبحانه أنه جعل الأرض ذلولاً منقادة للوطء عليها، وحفرها، وشقها، والبناء عليها، ولم يجعلها مستصعبة ممتنعة على من أراد ذلك منها.
فمن بركة الأرض أن الحيوانات كلها وأرزاقها وأقواتها تخرج منها.
ومن بركتها أنك تودع فيها الحب فتخرجه لك أضعاف أضعاف ما كان.
ومن بركتها أنها تحمل الأذى على ظهرها، وتخرج لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها؛ فتواري كل قبيح منه كل قبيح، وتخرج له كل مليح.
والمقصود: أنه سبحانه جعل لنا الأرض كالجمل الذلول الذي كيفما يُقاد ينقاد.
طريق معرفة الله:
الرب تعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين:
أحدهما: النظر في مفعولاته.
والثاني: التفكر في آياته وتدبرها.
فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة.
قال بعض العارفين: كيف أطلب الدليل على من هو دليل لي على كل شيء.


الضدان لا يجتمعان:
إذا كان القلب ممتلئاً حُباً للباطل اعتقاداً ومحبة، لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع. كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع، لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه، إلا إذا فرّغ لسانه من النطق بالباطل. وكذلك الجوارح، إذا اشتغلت بغير الطاعة، لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرّغها من ضدها.
حكم وفوائد:
إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.
أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وانفع لها في معادها.
لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين.
من عظّم وقار الله في قلبه أن يعصيه وقّره الله في قلوب الخلق أن يذلوه.
يا آدم لا تجزع من قولي لك (اخرج منها) فلك ولصالح ذريتك خلقتها.
يا آدم لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك، فقد اُستخرج منك داء العجب وألبست خلعة العبودية (وعسى أن تكرهوا).
كيسك: حذقك وفطنتك.
عبر وحكم بالغة:
من فقد أنسه بين الناس، ووجده في الوحدة، فهو صادق ضعيف.
ومن وجده بين الناس، وفقده في الخلوة، فهو معلول.
ومن فقده بين الناس، وفي الخلوة، فهو ميت مطرود.
ومن وجده في الخلوة، وفي الناس، فهو المحب الصادق القوي في حاله.
ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها.
ومن كان فتحه بين الناس ونصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم.
فأشرف الحوال أن لا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه؛ فكن مع مراده منك ولا تكن مع مرادك منه.

(معرفة الله والإعراض عنه)
من أعجب الأشياء: أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وان تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته.
وأعجب من هذا: علمك أنك لا بد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت عنه مُعرض، وفيما يُبعدك عنه راغب!
 مصادر الحرام:
ما أخذ العبد ما حُرم عليه إلا من جهتين:
إحداهما: سوء ظنه بربه، وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً.
والثانية: أن يكون عالماً بذلك، وأن من ترك لله شيئاً أعاضه خيراً منه، ولكن تغلب شهوته صبره، وهواه عقله.
فالأول من ضعف علمه، والثاني من ضعف عقله وبصيرته
قال يحيى بن معاذ: من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يرّده.
قلت: إذا اجتمع عليه قلبه، وصدقت ضرورته وفاقته، وقوي رجاؤه، فلا يكاد يُرد دعاؤه.
فوائد وحكم متفرقة:
شهوات الدنيا كلعب الخيال، ونظر الجاهل مقصور على الظاهر، فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر.
تا الله ما كانت الأيام إلا مناماً، فاستيقظوا وقد حصلوا على الظفر.
إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور.
لا تسأل سوى مولاك؛ فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه.
إذا خرجت من عدوك لفظة سفهٍ، فلا تُلحقها بمثلها تُلقحها، ونسلُ الخصام نسلٌ مذموم.

حُسن الخلق والتقوى:
جمع النبي "صلى الله عليه وسلم" بين تقوى الله وحُسن الخلق؛ لأن تقوى الله تُصلح ما بين العبد وبين ربه، وحُسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحُسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.
مواعظ وعبر:
بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تُقطع بخطوتين: خطوة عن نفسه، وخطوة عن الخلق؛ فيسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس، ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله؛ فلا يلتفت إلا إلى من دله على الله وعلى الطريق الموصلة إليه.
مواعظ وحكم:
من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس.
من عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه.
أخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله بنفسه، بل أخسر منه من اشتغل عن نفسه بالناس.
منافع الجهاد:
قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلنا).
علق سبحانه الهداية بالجهاد؛ فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً. وأفرض الجهاد: جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا.
إذا رأيت الرجل يشتري الخسيس بالنفيس، ويبيع العظيم بالحقير؛ فاعلم بأنه سفيه.
حكم وفوائد:
لما علم السيد أن ذنب عبده لم يكن قصداً لمخالفته ولا قدحاً في حكمته، علّمه كيف يعتذر إليه (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه).
العبد لا يريد بمعصيته مخالفة سيده ولا الجرأة على محارمه، ولكن غلبات الطبع، وتزيين النفس والشيطان، وقهر الهوى، والثقة بالعفو، ورجاء المغفرة.
ذنب يدل به أحب إليه من طاعة يدل بها عليه.
المعرفة بساط لا يطأ عليه إلا مقرب، والمحبة نشيد لا يطرب عليه إلا مُحب مغرم.
اشتغل به في الحياة يكفك ما بعد الموت.
تالله ما عدا عليك العدو إلا بعد أن تولى عنك الوليّ، فلا تظن أن الشيطان غلب، ولكن الحافظ أعرض.

الاختلاف في حقيقة الإيمان:
وأما الإيمان فأكثر الناس، أو كلهم، يدّعونه (وما أكثرُ الناسِ ولو حرصت بمؤمنين) وأكثر المؤمنين إنما عندهم إيمان مجمل. وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة وعلماً وإقراراً ومحبة ومعرفة بضده وكراهيته، فهذا إيمان خواص الأمة وخاصة الرسول، وهو إيما الصديق وحزبه.
أقرب الوسائل إلى الله: ملازمة السنة، والوقوف معها في الظاهر والباطن، ودوام الافتقار إلى الله، وإرادة وجهه وحده بالأقوال والأفعال، وما وصل أحد إلى الله إلا من هذه الثلاثة، وما انقطع عنه أحد إلا بانقطاعه عنها أو عن أحدها.
ترك الأوامر أعظم من ارتكاب المناهي:
قال سهل بن عبد الله: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي؛ لأن آدم نُهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه، وإبليس أُمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه.
قلت: هذه مسألة عظيمة لها شأن، وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وذلك من وجوه عديدة:
أحدهما: ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله إبليس.
الثاني: أن ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة، وذنب ترك الأمر مصدره في الغالب الكِبر والعزة.
قاعدتا الدين: الذكر والشكر.
مبنى الدين: الذكر والشكر، قال تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون).
وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان، بل الذكر القلبي واللساني، وذكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته، وذكر أمره ونهيه، وذكره بكلامه.
وأما الشكر، فهو القيام له بطاعته، والتقرب إليه بأنواع محابة ظاهراً وباطناً، وهذان الأمران هما جماع الدين؛ فذكره مستلزم لمعرفته وشكره، متضمن لطاعته.
وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس والسماوات والأرض، ووضع لأجلها الثواب والعقاب، وأنزل الكتب وأرسل الرسل.
أنواع المواساة للمؤمنين:
المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال، ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصح والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم.
دخلوا على بشر الحافي في يوم شديد البرد وقد تجرد وهو ينتفض، فقالوا: ما هذا يا أبا نصر؟ فقال: ذكرت الفقراء وبردهم وليس لي ما أواسيهم به، فأحببت أن اواسيهم في بردهم.



الأربعاء، 18 يونيو 2014

كتاب رقائق القرآن

كتاب: رقائق القرآن
المؤلف: إبراهيم عمر السكران
دار النشر: دار الحضارة
الطبعة: الثالثة 2014
إنسان هذا العصر منهمك في دوامة الحياة اليومية، دوامٌ مضنٍ، ورسالة جوال، وبريد إلكتروني، وتعليق فيسبوكي، وخبر تويتري، ومقطع يوتيوبي، وتنقل بين الفضائيات، وأعمال مؤجلة كلما تذكرتها قرصك الهم.. الخ
ومن أفظع نتائج هذا الانهماك المضني في تروس المدنية المعاصرة تلك القسوة التي تدب إلى القلوب فتستنزف الإيمان، وتفزع السكينة الداخلية.
ألم يحن لنا أن نستقطع وقتاً نهرب فيه من هذا التطاحن المعاصر لنعيد شحن أرواحنا بنسيم الإيمان؟
ألم يأن لنا أن نُرقق قلوبنا بالقرآن؟
هذا الكتاب في جوهره هو مشاهدات اجتماعية مررت بها ثم عرضتها تحت سراج القرآن، وانكشف لي فيها معانٍ أخاذة في ترقيق القلب، وتليينه وتزكيته وتطهيره.
من أعاجيب النفوس، وما يمور فيها من الأحاسيس؛ ان بعض الناس يكره ذكر الموت، ويدور في مشاعره الخفية أنه حين يتحاشى ذكره فإنه يبتعد عنه، وأنه حين يذكره فسيكون قريباً منه.
ويتكلف الأسباب المشروعة وغير المشروعة في مدافعة الموت؛ يظن أنه سيؤجل يومه المكتوب، وهذا "الفرار النفسي" من الموت صوره القرآن تصويراً تبكيتياً حين قال تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)
بل تأمل ما هو أعجب من ذلك، وهو إن الإنسان يسير بقدميه إلى الموضع الذي كتب الله وفاته فيه، وهو لا يعلم القدر المخبوء، حيث يقول الله تعالى: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم).
أمامنا اليوم فرصة للعمل الصالح قبل أن تأتي هذه الساعة القريبة المفاجئة التي لن تنفع فيها التوسلات بالعودة لزمان العمل.
وقد أخبرنا كتاب الله عن فئام من الناس حين يحضرهم الموت يسألون الله فسحة زمنية يسيرة ليتصدقوا، ولكن بعد ماذا؟ بعد أن فات الأوان؟!
يقول الله تعالى: (وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقولَ رب لولا أخرتني إلى أجلٍ قريب فأصدّق وأكن من الصالحين "10" ولن يؤخر اللهُ نفساً إذا جاء أجَلُها والله خبيرٌ بما تعملون)
برغم أن إنسان هذه الحقبة الزمنية من التاريخ غارق في لجج المدنية المعاصرة ومنتجاتها التقنية والاتصالية، إلا إنه مع ذلك تعتري المؤمن لحظات مفاجئة بين فينةٍ وأخرى تنتشله من هذا المسلسل المتماسك، فيخرج من مدارات التفاصيل الصغيرة، وستعيد وعيه بالحقائق الكُبرى.
لقاء الله قريب ولا زلنا غافلين، كما قال الله تعالى: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلةٍ مُعرضون)
والقرآن أخبر عن المعاد بطرق كثيرة متنوعة. ولم تكن كثرتها مصادفة، ولكنها لأغراض لا تخفى على المهتم بمغزى كلام الله.
والحقيقة ان من بين الآيات التي تحدثت عن اليوم الآخر لفت انتباهي وشدني كثيراً طائفة من الآيات صورت الناس لحظة القيام من قبورهم.
صورت تلك الآيات مشهد الذهول البشري، بالله عليك! انظر كيف يصوّر القرآن مشاعر المقصرين في ذلك اليوم: يقول تعالى: (ولا تحسبن اللهَ غافلاً عمّا يعملُ الظالمون إنما يؤخرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار "42" مُهطعين مُقنعيّ رؤوسهم لا يرتدُ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء)
وصف القرآن هذه الحالة بأنهم "لا يرتدُ إليهم طرفهم"، ومن شدة الفزع والرعب وصف الله القلوب بأنها فارغة فقال: "وأفئدتهم هواء"
ومن التصويرات القرآنية الأليمة لتلك اللحظات، تصوير لحظة الانكسار والذل التي تعتري المُقصّر، يقول تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إن موقنون)
بالله تخيل نفسك مُنكساً رأسك في ذلك اليوم تتمنى العودة لدار العمل، وافجيعتاه!
بل إن الله تعالى تمدّح بتعظيم نفسه بإلقاء الوحي على الرسل لكي ينبهوا الناس على اليوم الآخر، فجعل الله من أعظم وظائف الوحي تذكير الناس بقرب لحظة لقاء الله، كما قال تعالى: (رفيعُ الدرجات ذو العرشِ يلقي الروحَ من أمره على من يشاءُ من عباده لينذر يوم التلاق)
والله إنه لأمرٍ محرج أن يكون الله تعالى يوضح لنا أن من أغراض الوحي تنبيه الناس على لقائه، ونحن غافلون عن هذه الغاية القرآنية العظيمة.
هل نحن حين نتلو القرآن نستحضر أن من مقاصد القرآن تعميق استحضار اليوم الاخر في النفوس؟
هل منحنا الآيات التي تصور مشاهد اليوم الآخر منزلتها التي تستحقها؟
حسناً، كلما استطاع المسلم التخلص من الضباب الكثيف الذي يصنعه الانهماك في الدنيا، ومنح نفسه ساعة تأمل في لحظة صفاء، وتذكر قُرب لقاء الله، فإنه سيتفاجأ بحيوية جديدة تدب في نفسه، سيشعر كأنما قام قلبه باستحمام إيماني يُزيل عنه العوائق والأوضار، ستتغير نظرته لكثير من الأمور.
نعرف جيداً من خلال تجاربنا اليومية أن إيماننا في قلوبنا يمر بحالات متفاوتة، بل شديدة التفاوت.
تارة نشعر بدفء الإيمان في قلوبنا يتصاعد، فيرق القلب ويلين ويخف ويرفرف، فتنيب النفوس وتذعن.
وتارات أخرى نشعر بالإيمان في نفوسنا يتبلد ويفتر، حتى نجد من استثقال الطاعات والتكاسل عنها ما يشعرك أنك مُكبل.
تخيل ما شئت من هذه المراحل والصفات لقسوة القلب، ثم استمع إلى تصوير القرآن لحالة محزنة مخيفة من حالات قسوة القلب، يقول جل وعلا: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارةِ أو أشدُ قسوة).
إنه ليس كالحجارة فقط، بل قد يكون كما تصور الآية "أشد قسوة"!
بالله عليك هل تتخيل قلباً أقسى من الصخر؟
بل إن الله تعالى ذكر فضل الحجر على بعض القلوب، في صورة يتصبب المؤمن منها حرجاً! حيث تستكمل الآية التصوير (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدُ قسوة وإنّ من الحجارةِ لما يتفجر منه الأنهار وإنّ منها لما يشققُ فيخرجُ منه الماء وإنّ منها لما يهبطُ من خشية الله).
وقد لاحظ إمام التفسير قتادة بن دعامة السدوسي هذه المقارنة القرآنية بين الصخور وبعض قلوب بني آدم، فعلّق تعليقاً بديعاً قال فيه: "عذر الله الحجارة، ولم يعذر شقيّ بني آدم".
قد يتصور كثيرٌ من الناس أن "قسوة القلب" مجرد سبب للمعصية، ويغفل الكثيرون عن أن "قسوة القلب" قد تكون نتيجة وعقوبة من الله على المعصية ذاتها، فيُعاقبُ الله العبد إذا عصاه بأن يُسلط عليه قسوة القلب، كما قال الله تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية).
الحقيقة أن قسوة القلب هي نتيجة طبيعية للمعاصي والخطايا بشكل عام، ولكن ثمة عامل له خصوصية في إنتاج قسوة القلب، وهو بكل اختصار: "بُعد العهد عن ذكر الله".
لا أعرف سبباً يُجفف القلب ويُقسيّه مثل الغفلة عن ذكر الله.
ولا أعرف سبباً يُحيى القلب ويُنيره فوراً مثل ذكر الله.
ولاحظ العلاقة بين بعد العهد عن الذكر وقسو ة القلب في قول الله تعالى (فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله).
كما أن قسوة القلب تحرم المرء من التضرع لله (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم)
تتحدث كتب النفس، وبرامج الاستشارات التلفزيونية والنصائح الطبية، ونحوها، عن مشكلة يسمونها "مشكلة السهر"، ويتكلمون عن أضرارها، ويطرحون لها حلول وأساليب علاج.
لكن ثمة نوعٍ آخر من السهر لا أرى له ذكراً بينهم، سهر يذكره القرآن، وكلما مررت بتلك الآيات التي تتحدث عن هذا السهر شعر بالخجل.
في أوائل سورة الذاريات لما ذكر الله أهوال يوم القيامة، توقف السياق القرآني، ثم بدأت الآيات تلوح بذكر فريق حصد السعادة الأبدية، واستطاع الوصول إلى "جنات وعيون"، ولكن ما السبب الذي أوصلهم إلى تلك السعادة؟
إنه "السهر المجهول".
تأمل كيف تشرح الآيات سبب وصول ذلك الفريق إلى الجنات والعيون (إنّ المُتقين في جناتٍ وعيون "15" آخذين ما أتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك مُحسنين "16" كانوا قليلاً من الليلِ ما يهجعون "17" )
تأمل كيف كان سبب سعادتهم أن نومهم بالليل "قليل"!
إذن أين يذهب بقية ليلهم؟
إنه يذهب بالسهر مع الله جل وعلا، ذلك السهر المجهول.
بل وتأمل في بلاغة القرآن كيف يجعل البيات قياماً كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن في سورة الفرقان (والذين يبيتون لربهم سُجداً وقياماً).
إنهم يبيتون، لكنهم يبيتون لربهم في سجود وقيام!
ومن ألطف مواضع السهر الإيماني أن الله جعله من أهم عناصر التأهيل الدعوي في بداية الطريق.
الله سبحانه وتعالى لم يجعل أعظم السهر الإيماني في آخر الدعوة النبوية بعد استيفاء التدرج، كلا، بل جعله في أولها، فقال تعالى لنبيه في آيات كادت تستغرق الليل (يا أيها المزمل "1" قم الليل إلا قليلا)
هل كان فعل ذلك مختص برسول الله "صلى الله عليه وسلم"؟
لا، بل كان أصحابه في أيام غربة الدعوة يصلون معه تلك الصلوات التي تستغرق الليل.
يقول تعالى (إنّ ربك يعلم أنك تقومُ أدنى من ثُلثي الليل ونصفه وثُلثه وطائفة من الذين معك).
السابقون الأولون من أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" خلّد الله قيامهم غالب الليل في كتابه العظيم، أي شرف أعظم من هذا الشرف؟!
أما نحن، فمنا أقوام ينامون الليل كله ويستثقلون دقائق معدودة ليتهجدوا فيها بين يدي الله.

من الأشياء التي تبتهج بها نفسي حين يتهادى إلى أذني صوت أحد كبار السن وهو يذكر الله.
لا أدري لماذا يكون لزجل ذي الشيبة بالتسبيح وقع تنفسح به أرجاء النفس.
خصوصاً إذا كانت تسابيح كبار السن هذه في أواخر الليل، وهم يحملون على أنفسهم إما لتهجد أو تلاوة، أو هم يمشون في سواد الليل وقُبيل أذان الفجر إلى المسجد.
ومن الأمور التي كانت تُثير انتباهي أن كل من رأيت من كبار السن الصالحين اللاهجين بذكر الله، أنهم يعيشون "رضاً نفسياً" عجيباً ومُدهشاً".
وبكل صراحة فإن هاتين الظاهرتين "التسبيح، والرضا النفسي" لم تكونا مرتبطتين في ذهني بصورة واضحة، ولكن مرت بي آية من كتاب الله كأنها كشفت لي سرّ هذا المعنى، وكيف يكون التسبيح سائر اليوم سبباً من أسباب الرضا النفسي.
يقول الله تعالى (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى)
لاحظ أولاً في هذه الآية كيف استوعب التسبيح سائر اليوم، قبل الشروق، وقبل الغروب، وآناء الليل التي هي ساعاته، وأول النهار وآخره.
ماذا بقي من اليوم لم تشمله هذه الآية بالحث على التسبيح؟!
كلما قرأت قول الله تعالى (ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى)، وقوله تعالى (ولقد نعلمُ أنك يضيق صدرك بما يقولون "17" فسبح بحمد ربك)
قلت في نفسي: سبحان من جعل النفوس ترتوي بالرضا من ينابيع التسبيح!
ومن أعجب المعلومات التي زودنا بها القرآن أننا نعيش في عالم يعج بالتسبيح من حولنا، تسبيح الكائنات في هذا العالم مشهد مهيب صوّره القرآن.
تأمل مثلاً كيف أخبرنا الله تعالى أن الرعد يُسبّح: ( ويُسبح الرعدُ بحمده).
وأن الجبال والطير تسبح: (وسخرّنا مع داود الجبال يُسبحن والطير)
بل أخبرنا خبراً عاماً أن كل الكائنات تسبح لله، بما فيها السماوات والأرض نفسها، وما فيهما من مخلوقات، لكن تسبيحها له لغة لا نفقهها كما يقول الله تعالى : (تُسبح له السماوات السبعُ والأرض ومن فيهن وإنّ من شيءٍ إلا يُسبحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
 ولا يتأمل المؤمن مثل هذه المنزلة للتسبيح إلا ويُدركه شيء من الألم على فوات كثيرٍ من لحظات العمر عبثاً دون استثمارها بالتسبيح.
وأي شيء أجمل من قضاء دقائق الانتظار، والطريق ولحظات الصمت، في تسبيح الله؟!