الأربعاء، 29 يناير 2014

كتاب العرب وجهة نظر يابانية

كتاب العرب وجهة نظر يابانية
المؤلف: نوبوأكي نوتوهارا
دار النشر: الجمل
(140)صفحة
أربعون عاما مرت على علاقتي بالثقافة العربية، النثر العربي المعاصر بصورة عامة والرواية بشكل خاص.
كنت طالبا في المرحلة الثانوية وكان عندي اهتمام كبير بالأدب الياباني الحديث، ولقد قرأت كثيرا من الأعمال الأدبية والأجنبية. لذلك فكرت أن ادرس الأدب الألماني. وفي العام الذي حاولت فيه أن أدخل إلى الجامعة، أعلنت جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية عن افتتاح قسم للدراسات العربية العام 1961، وفجأة تحرك صوت في داخلي يدعوني لدراسة اللغة العربية. على الرغم أني لا أعرف شيئا عن الثقافة العربية كغالبية اليابانيين.
لقد أشاع الباحثون اليابانيون وقتئذ أن الشعر الجاهلي وحده جدير بالاهتمام، وأن ليس عند العرب المعاصرين من يستحق الاهتمام سوى نجيب محفوظ!
وطبعا عرفت فيما بعد كم كانت تلك الآراء سطحية وخاطئة.
قادني البحث والمصادفة إلى غسان كنفاني واعترف أن هذا الكاتب أثر في وجداني تأثيرا عميقا وعلمني القضية الفلسطينية.
ولقد كانت روايته "عائد إلى حيفا" أول عمل أترجمه إلى اليابانية عام 1969م.
في عام 1974، حصلت على منحة خاصة من الحكومة المصرية للدراسة كطالب مستمع في جامعة القاهرة.
كانت القاهرة تجربتي الأولى، ورواية "الأرض" لعبدالرحمن الشرقاوي فاتحة قراءتي هناك.
هذه الرواية دفعتني نحو الريف المصري، وفعلا سافرت إلى المحافظة الشرقية، وأقمت في قرية "الصحافة" وهناك تعرفت على حياة الفلاحين وعاداتهم وتقاليدهم.
بعد فترة وجهت نظري إلى جهات العالم العربي، فرأيت البادية او فلأقل وجدت البادية!
البادية التي لا توجد في اليابان ولا في أوروبا، ولكنها موجودة في العالم العربي.
لذلك سافرت إلى البادية في سوريا عام 1980م كان هدفي واضحا هو أن أبحث عن معنى مختلف عما هو موجود في اليابان ومصر.
استقبلني بنو خالد بكرم يليق بهم، وخلال تلك الإقامة كنت أبحث عن روايات تتحدث عن البدو، وهكذا عرفت إنتاج عبدالسلام العجيلي وعبدالرحمن منيف "مدن الملح"، وأخيراً وجدت إبراهيم الكوني، الكاتب الليبي الذي ينتمي إلى الطوارق.
تجربة (40)عاما في العالم العربي كونت لدي تساؤلات كثيرة وملاحظات كثيرة وخبرات لا أعرف كيف أصفها.. هل علي أن أقدم بكلام عاطفي عن محبتي للثقافة العربية؟
لقد أعطيتها عمري كله، وجهودي وعملي وهذا برأيي أرفع تقدير وأكبر محبة.
أريد أن أقول للقارئ العربي رأيا في بعض مسائله كما أراها من الخارج كأي أجنبي عاش في البلدان العربية وقرا الأدب العربي وأهتم بالحياة اليومية في المدينة والريف والبادية.

نحن في اليابان عرفنا تجربة طويلة مع القمع وعانينا من كافة أشكاله في تاريخنا.
وحتى بعد الحرب العالمية استمرت مظاهر القمع في الحياة الاجتماعية اليابانية. بعد ذلك التاريخ المرير خرجنا من القمع وعرفنا كيف نتصرف بمسؤولية تجاه الوطن وتجاه الاخرين.
ومازلنا نعمل بدأب لكي نتحرر من رواسب القمع التي ورثناها عن ماضينا. أظن أن الياباني يستطيع الآن أن يميز القمع بوضوح على ضوء تجربته.
وأنا حين أتلكم عن القمع في الوطن العربي فإنني أتكلم حقيقة من المقارنة المباشرة أو غير المباشرة بين المجتمعين العربي والياباني.
من يعرفون البلدان العربية قرؤوا عن السجون وهم غالبا يعرفون أسماءها من الكتب ومن الصحافة العالمية وبعض جماعات المعارضة الصغيرة.
منذ ثلاثين سنة لم أعرف موقع سجن عربي تماما. هذا أمر ممنوع ومحرم. كيف؟
الكاتب المعروف يوسف إدريس زار اليابان عدة مرات. وقد قال لي، إنه كان يبحث عن سر نهضة اليابان التي أدهشت العالم. وبعد الزيارة الثالثة سألته: هل وجدت الإجابة في اليابان؟ قال لي نعم، مرة كنت عائدا إلى الفندق في وسط طوكيو حوالي منتصف الليل، ورأيت عاملا يعمل وحيدا. فوقفت أراقبه لم يكن معه أحد. ومع ذلك كان يعمل بجد ومثابرة كما لو أن العمل ملكه هو نفسه. عندئذ عرفت سبب نهوض اليابان وهو شعور ذلك العامل بالمسؤولية النابعة من داخله بلا رقابة ولا قسر.
بالطبع انا لا أقصد هنا مفاضلة ولست من القائلين بتفوق شعب على لآخر، ولكنني أعرف من تجربة الإقامة في البلدان العربية معنى عدم الشعور بالمسؤولية.
لقد فكرت طويلا في ظاهرة تخريب الممتلكات العامة وفهمت أن المواطن يقرن بين الأملاك العامة والسلطة، وهو في لا وعيه على الأقل ينتقم سلبيا من السلطة القمعية فيدمر بانتقامه وطنه.
(في المطار عتبة البلاد)
ربما أن الياباني يفكر أول ما يفكر بالمطار عندما يقرر السفر إلى البلدان العربية.
في المطار نواجه صدمة ونشعر بالإهانة. بالنسبة لي أعرف ان ذلك ليس الوطن العربي الذي اريد أن اعرفه واحترمه وأفهمه.
عادة يخرق النظام من له معرفة بين العاملين في المطار أو شخص مهم أو ما شابه ذلك.
منذ سنوات قريبة كنت في مطار الرباط وقبل ان أدخل من بوابة القادمين ندهني أحد الموظفين وطلب مني 100 درهم فأعطيته على الفور، لأنني ظننت أن المبلغ شكل من أشكال رسوم الدخول للبلد. ولكن بعد قليل شاهدت موظفا آخر يتجه نحوه ويوبخه بكلام يدل على أنه سرقني. استمر الموظفان في الجدال لكن لم يعد لي أحد ال100 درهم!
عندنا في اليابان رئيس الوزراء يتغير حوالي كل سنتين لكي نمنع ظهور أي شكل من أشكال استبداد حاكم فرد. فالحكم الطويل يعلم الحاكم القمع إذا كان لا يعرفه.
بعد الحرب العالمية الثانية تناوب على منصب رئيس الوزراء أكثر من 20 شخصية سياسية، ليس لأنهم كانوا غير جديرين أو غير مخلصين ولكن لأن قيادة الدولة المعاصرة أكبر من إمكانيات أي فرد لوحده مهما كان موهوبا وقويا.
كما أن هذا المنصب عندما يمارسه المسؤول مرة واحدة فقط وهكذا، نضمن عدم ظهور مركزية فردية مهيمنة.
إن الحاكم العربي يخاطب الشعب بكلمة، يا أبنائي وبناتي. عندنا نعتبر هذه الكلمة إهانة بالغة إذا استعملها مسؤول مهما كان كبيرا. نحن لا نقبل بهذه الصيغة نحن نقول لرئيس الوزراء أنت حر في بيتك ولكن كان خارج البيت نحن لا نسمح لك.
الحكام أيضا يرتكبون أخطاء وعلينا أن ننتبه دائما إلى أعمالهم، وأن نراقبهم بشدة كيلا ينحرفوا.
ولذلك نحن نحتاج دائما إلى جهاز رقابة فعال في البلدان العربية لا توجد الرقابة التي تحقق العدالة الاجتماعية لا نهم لا يوضحون ولا يكشفون عن الأشياء المخبوءة.
(الأطفال والقمع)
إن قمع الطفولة مسؤولية عامة في المجتمع العربي وهذا القمع يتخذ أشكالاً مختلفة فعلى سبيل المثال لم أجد في مدينة عربية مرافق عامة خاصة بالطفال.
بالطبع هناك بعض الحدائق المتخصصة للأطفال. ولكن عندنا في اليابان نحسب حساب الطفل كجزء أساسي من بناء أي حي او مرفق عام.
الأطفال في المدن العربية يلعبون على الأرصفة وفي الأزقة والشوارع أحياناً، وهم بذلك يعرضون أنفسهم للخطر ويسببون إزعاجا للآخرين أيضا.

(مسؤولية العمل والنظر)
العربي بصورة عامة يخاف الله. خلال إقامتي الطويلة في مصر كنت احتاج أحيانا عاملا لتصليح أنابيب الماء أو لتصليح شيء ما في البيت، وكان أولئك العمال يأخذون مني أضعاف أتعابهم لأني أجنبي ربما!
لكنني اهتديت إلى طريقة تخفف من جشعهم فكنت أقول للعامل مثلا: ألا تخاف الله؟ انا سأطالبك بالنقود الزائدة التي أخذتها مني يوم القيامة. الجميع كانوا يخافون فعلا ويأخذون أجرهم في حدود ما كانوا يسمونه الحلال.
(فكرة الخلود والحاكم)
في الثقافة العربية والإسلامية الإنسان مركز العالم فلا عجب أن يكون الحاكم مركز الشعب. أي الحاكم مشروع البقاء الدائم المتعالي.
إن العرب المعاصرين يضيفون صفة الخلود حتى لرؤسائهم مثل الزعيم الخالد، زعيمنا إلى الأبد.. وهكذا.
إن هذا الأبد المضفى على الحاكم يثيرنا في اليابان ويفوق قدرتنا على التصور وأحيانا يفوق قدرتنا على الفهم.
فكرة التأييد لا تقتصر على رجل السلطة الكبير وإنما تشمل قادة الأحزاب التي من المفترض أن تحمل مشروعا مناقضا لمشروع السلطة القائمة ومختلفا عنه.
إن المعارضة القائمة في البلدان العربية هي في حقيقتها سلطة ضد السلطة، أو سلطة مضادة تطمح للسيطرة على الحكم دون ان تقدم مشروعا مغايراً لمشروع الحكم المسيطر.
ولذلك فالمعارضة في البلدان العربية آمنة، لها مكاسبها ولها مشاركتها المباشرة في الحكم أحيانا.
أما المعارضة الحقيقية التي لا نستطيع أن نقابل أفرادها فإنها في السجون العربية او في المنافي الاضطرارية.

(كاتب بعيد من اعتبارنا ككاتب)
خلال أربعين سنة من حياتي قابلت عددا كبيرا من الكتاب العرب وعددا أقل من المفكرين العرب. ولي أصدقاء حميمون منهم.
ومن هذه التجربة الزمنية الطويلة اكتشفت أن الكتاب النجوم يتكلمون كأنهم "سلطة". في البداية لم أصدق فهمي ولذلك كنت استمع واستمع ولكن بكل أسف لم أسمع شيئا جوهريا يختلف عن السائد.
إنني شبعت جدا من كلمة "الديموقراطية" وكل من له علاقة بالكتاب العرب يعرف معنى التخمة من كلمة "الديمقراطية"
فمثلاً: تجلس مع كاتب يتحدث عن الديمقراطية بلا تعب ثلاث ساعات، ولا يعطي مجالا لأحد من الحاضرين بالكلام!
عمليا هو يمارس الدكتاتورية أو على الأقل سلطة النجم ومع ذلك يشكو من غياب الديموقراطية.
نحن نستغرب ظاهرة مديح الحاكم كما نستغرب ظاهرة رفع صوره في أوضاع مختلفة كأنه نجم سينمائي. باختصار نحن لا نفهم علاقة الكتاب العرب بحكوماتهم.
عندنا ننتظر من الكاتب أن يساعدنا ويعلمنا وان يوضح لنا مستقبلنا. ولا يخطر لنا على بال أن كاتبا قد يمدح الحاكم.
أنا لا أستطيع أن أقبل كاتبا يمدح السلطة أو كاتبا ليس له موقف واضح صريح من قضايا الشعب في البلدان العربية.
(يوم مات الزعيم – صورة الزعيم)
كنت في القاهرة يوم مات الرئيس جمال عبدالناصر. لقد رأيت الحزن الكبير الصاعق الذي سيطر على الناس، ولكنني رأيت ايضا الحيرة والفوضى التي تسيطر على الناس.
لقد فهمت الوزن الكبير الذي يعطى للزعيم في مصر، الناس يحتاجون إلى زعيم أو على الأقل يبدو أن المصريين أنهم يحتاجون إلى زعيم.
من هو الزعيم الحقيقي؟ كيف يجب أن يكون الزعيم؟ من هو الزعيم الجدير بالثقة؟ لماذا يحتاجون زعيما إلى هذه الدرجة؟
بالمقارنة، عندنا في اليابان صورة الزعيم فقيرة جدا. لقد فقدنا الصورة الحقيقية للزعيم. الزعيم الحقيقي في تصوري لا يلهث وراء السلطة، السلطة نفسها تأتي إليه، يفرضها عليه وعي المسؤولية والشعور العميق بالواجب.
(القضية الفلسطينية)
هناك جرائم لا نتحمل مسؤوليتها مباشرة، أي لم نشارك فيها، ولكن لا بد أن نتحمل مسؤوليتها إنني اعتقد أن البشر جميعاً مسؤولون عن أي جريمة تحدث على كوكبنا، ولذلك فالعالم كله مسؤول عن الجريمة التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني
المسألة ببساطة شديدة هي أن مجموعة بشرية جاءت من خارج فلسطين، واستوطنت بقوة السلاح، ثم شردت شعبا، واغتصبت أرضه وثقافته وتاريخه، فالقضية الفلسطينية خطأ ارتكبه العالم، وما زال يتفرج عليه دون أن يعمل جديا على حله.
نحن في اليابان عرفنا القضية الفلسطينية عن طريق الغرب، بعدئذ فهمنا أن علينا أن نبحث عن الحقائق بأنفسنا.
من المعلوم أن ضوضاء كبيرة أحاطت بالقضية الفلسطينية، وبالنسبة لي كان غسان كنفاني هو الصوت الأقوى والأصفى الذي صدقته وسط تلك الضوضاء.
لقد تهيأ لنا في اليابان فرصة نشر روايات غسان كنفاني. فترجم صديقي الأستاذ كورودا رواية "رجال في الشمس" وترجمت روايته "عائد إلى حيفا" وخمس قصص قصيرة في كتاب واحد، ولقد اخترت تلك الأعمال لأنها تبين لنا مسيرة قدر الفلسطينيين.

(ما تعلمته من ثقافة البدو)
لقد تعلمت من ثقافة البدو أشياء كثيرة كانت جديدة وفريدة بالنسبة لي لذلك لا بد ان أوضح موقفي قليلاً؛ لم أذهب إلى الصحراء وأدب الصحراء العربية بحثا عن الغرابة، بل ذهبت باحثا عن المعنى.
من المعروف أن البدو يهاجرون دائما بحثا عن الماء والعشب. فالعشب مهم جدا لأنه مصدر الحياة بالنسبة للبدو.
والمهم في ذلك فيما أرى أن تلك الحياة رسخت عند البدوي الشعور بعدم ضرورة الملكية.
إن التنقل الدائم يفرض على الفرد أن يحتفظ بما هو ثمين وأساسي لحياته ولذلك فإن شعور الملكية ضعيف عند البدو.
لماذا لا يطور البدو حياتهم؟
لأنهم يعتقدون أنها مكتملة لا ينقصها شيء وأية إضافة ستكون تنازلاً او انتقاصا من حياتهم.
تعلمت من البدو أن الذين يضطرون، أو يختارون العيش في ظروف جغرافية حيث تكون الموارد المتوفرة قليلة، وحيث يفتقدون حاجات كثيرة، أولئك لا بد أن يختاروا أساليب حياة تتناسب مع ظروفهم تلك.
من تجربتي في البادية عرفت معاناة الضجر والملل. وعرفت مرارة مرور الوقت الفارغ إلا من الجلوس والانتظار.
البدو عندهم وعي خاص بهم لمجرى الوقت، إنه مفهوم مختلف عن الساعة، اليوم، الأسبوع، وهكذا
إنهم يعيشون في ديمومة وقتهم الخاص حيث تنمو الأعشاب وترعى الأغنام.
(عبد اللطيف اللعبي؛ الكتابة والقمع والحرية)
عبد اللطيف اللعبي من مواليد فاس عام 1942، اصدر عام 1966 مجلة "أنفاس" الأدبية ولقد أراد لها ان تجدد الحياة الثقافية في المغرب الأقصى. وفي عام 1972 منعت المجلة من الصدور وأعتقل اللعبي باعتباره مسؤولا عن تحريرها وصاحب أفكار تضر بأمن الدولة.
خرج من السجن بعد ثمان سنوات ونصف بفضل حملة دولية لانقاذه. ولقد انتقل لباريس منذ عام 1980، وكتب الشعر والرواية والمسرحية ونشر كتبا كثيرة.
منذ عشر سنوات قررت كتابة "رسائل السجن" على طلاب السنتين الثالثة والرابعة في جامعتنا، ومن خلال هذا الكتاب تولد اهتمامي به كإنسان.
قال لي: "من يعش خارج وعيه يعش خارج جسمه أيضاً، عندئذ لا يستطيع أن يدرك معنى الحياة ولذلك لا يحصل على الحياة... خلال فترات العزلة لم اعرف أبداً شيئا اسمه السأم, فقد كان رأسي مملؤا لحد التخمة وكذلك قلبي..."
شيء آخر. قد يعتقد البعض أن الوقت في السجن أطول من غيره. أعتقد أني احس بالعكس تماما، فالنهار يمر بسرعة لا بأس بها. أظن ان للقراءة والحلم دوراً كبيراً في ذلك,
(يوسف إدريس، الطريق إلى معرفة المجتمع في مصر)
أدب يوسف إدريس أخذني إلى اعماق حياة الشعب في مصر، وقد ساعدني على فهم شخصية مصر، وقدم لي مادة ملموسة عن التفاصيل اليومية في المجتمع.
يصف يوسف إدريس نفسه فيقول: أنا اداة حية في المجتمع، فإذا فقد مجتمعي وعيه أهمس إليه وأنفخ عليه ليصحو وأدفعه ليخرج إلى المعركة وأحيانا اخزه بقلمي لأجدد نشاطه.


الاثنين، 20 يناير 2014

كتاب أوراق مغربية "يوميات صحفي في الأمكنة القديمة"


أوراق مغربية، "يوميات صحفي في الأمكنة القديمة"
 لنواف القديمي، دار النشر: وجوه، (١٥٩) صفحة

في رحلتي هذه إلى المغرب وتونس لم أكن أدون يومياتي بقصد النشر، رغم التجربة المفيدة والمثيرة التي عشتها في هذه الزيارة، والسبب في ذلك يرجع إلى أنني كنت أنوي بعد عودتي من هذه الرحلة بقرابة الشهرين أن أقوم برحلة أخرى إلى إيران، بحيث ألتقي فيها عدداً من الشخصيات الدينية والسياسية والثقافية، وعدداً من المدن الإيرانية الشهيرة، وكنت أنوي أن أسجل يوميات هذه الرحلة بشكل ملائم للنشر، ولهذا السبب لم أكن أرغب في أن أنشر كتابين اثنين عن رحلتين قمت بهما في زمن متقارب.
لكن طلب زيارتي لإيران رُفض، وبعد إلحاح أخبرني الموظف أني موضوع على قوائم الممنوعين من دخول إيران!
حاولت في هذه اليوميات أن أرسم شيئاً من ملامح المشهد الثقافي والسياسي في هاتين الدولتين، وأن أشير إلى صفحات من دفاتر الحالة الإسلامية فيهما، وأن أدون نزراً من التاريخ، وبعضاً من الجغرافيا، ولقطات من شريط حياة الإنسان المنهك والبسيط..
لزيارتي إلى المغرب هدفان رئيسيان:
١- حضور المؤتمر أو الندوة، التي ينظمها منتدى الكرامة لحقوق الإنسان بالمغرب.
٢- الالتقاء بعدد من الباحثين والمؤلفين وذلك لفتح مجالات تعاون مستقبلي في مجال النشر.
ساعة وصولي إلى مطار الدار البيضاء، استلمت حقائبي الممتلئة بالكتب - لكوني أخذت معي مجموعة كتب أنوي إهداءها لبعض الباحثين الذين سألتقيهم - لم أكن أفكر في موضوع التفتيش على الإطلاق.
وعندما وصلت إلى نقطة التفتيش وعرف الضابط أن حقائبي تحتوي على بعض الكتب، قال لي مباشرة: ممنوع إدخال الكتب دون رخصة من وزارة الثقافة!
في السعودية اليوم لا يكادون يمنعون أي كمية كتب تقدم بها إلى المطار، ولو كنت تحملها في كراتين كبيرة، فكيف يتم مثل هذا في المغرب، بلد التعددية الحزبية والعمل السياسي المفتوح؟!
أديت صلاة الجمعة في مسجد الحسن الثاني، ورغم أننا في السعودية معتادون على رؤية كثير من المساجد الضخمة والفخمة، بشكل لم أكن أظن معه أنني سأرى ما يبهر، إلا أنني لم أستطع منع نفسي من التأمل بروعة المكان طيلة مدة جلوسي لسماع الخطبة.
بلغت كلفة بناء مسجد الحسن الثاني عدة مليارات من الدراهم، وكان إنشاؤه أشبه بتحدٍ كبير للدولة المغربية، وذلك بسبب كلفته المالية العالية.
لذا فقد ساهم كل الشعب المغربي في تحمل كلفة إنشائه، وذلك عبر التبرعات التي كانت تجمع على مدار بضع سنوات، إضافة إلى الاقتطاعات الشهرية من رواتب الموظفين الحكوميين للمساهمة في تغطية تكاليف الإنشاء.
لذا لا يزال بعض الشيوخ السلفيين في المغرب يرون حرمة الصلاة في هذا المسجد، لأن بعض تكاليف إنشائه أخذت عنوة من الناس عبر اقتطاعات إجبارية.
لوجبات الغداء في المغرب تكتيك خاص.. ففي البداية يضعون وسط السفرة طبقاً دائرياً كبيراً وممتلئاً بنوع معين من الطعام، وعندما تشرع في الأكل حتى تشبع، تفاجأ بأن هذا الطبق مجرد شوط أول، حيث يرفع هذا الطبق ويأتي طبق آخر، وبالطبع عليك أن تأكل منه أيضاً، وبعد الطبق الثاني ربما يكون هناك طبق ثالث أو سلة فواكه، ومن ثم الشاي المغربي الشهير.


عندما تسأل أي أحد في المغرب، ما الصحيفة الأكثر انتشاراً وتوزيعاً؟ فلن تجد سوى إجابة موحدة: "صحيفة المساء".
وحين تسأل لماذا؟ سيجيبك الجميع أيضاً: بسبب مقالات "رشيد نيني".
صحيفة المساء، رغم حداثة سنها الذي لم يتجاوز خمس أو ست سنين، إلا أنها باتت الصحيفة الأجرأ والأكثر تعبيراً عن هموم المواطن المغربي..
لكن الأهم في الصحيفة ليس جرأتها، بل المقالات اليومية الطويلة التي يكتبها المغربي رشيد نيني وتتصدر الصفحة الأخيرة من الصحيفة.
حيث يملك رشيد نيني لغة صحفية مبهرة، فيها مخزون هائل من التشويق والسخرية اللاذعة، والنبش المسكوت عنه، ونقل هموم المواطن المغربي بأفضل صورة ممكنة.
أياً كان السبب وراء قدومي إلى المغرب، فإن عدم رؤية بعض المواقع والتجول ببعض المدن الشهيرة يعد ناقضاً من نواقض الرحلة.
وكما أن الحج عرفة، فالمغرب هو مراكش، لذا قررت أن أذهب في يومي اللاحق لرؤية مدينة مراكش لبضع ساعات فقط ومن ثم العودة إلى الدار البيضاء.
رغم وجود العديد من المدن التاريخية في المغرب التي تعد أكثر قدماً من مدينة مراكش، خصوصاً تلك التي بناها الأدارسة في القرن الثاني والثالث الهجري، وأهمها مدينة فاس، وكذلك طنجة وأصيلا ومكناس.. إلا أن مدينة مراكش في تقديري تعد الأكثر أهمية..
تسمى مراكش المدينة الحمراء، لأن اللون الأحمر للحجر الصخري الذي شيدت به غالبية مبانيها صبغ المدينة بلون أحمر داكن ومميز.
وما يميز المدن المغربي اليوم أن هناك على الدوام سوراً تاريخياً يحيط بالمدينة القديمة، وخارج السور تبدأ أحياء المدينة الجديدة التي تم تشييدها عادة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مع قدوم الاستعمار الفرنسي.
تعد مدينة مراكش من أهم معاقل التيار السلفي التقليدي في المغرب، 
وللتيار السلفي الحديث في المغرب اتجاهين رئيسيين: الأول سلفية تقليدية معارضة للسلطة، ولها خطاب سياسي حاد، وتقترب بشكل أو بآخر من السلفية الجهادية.
والسلفية الأخرى هي سلفية مداهنة، لا تمثل معارضة للسلطة، بل ويعدها الكثيرون من التيارات الموالية لنظام الحكم.
من الجوانب التي تستحق الإعجاب في المغرب كثافة الإنتاج المعرفي، وعمقه، ورصانته. بحيث يمكن لأي باحث أن يجد عشرات المراجع المكتوبة بأقلام مغربية في أي موضوع بحثي يحتاج إليه..
لكن بالطبع ستواجهه مشكلتان: الأولى أن عدداً كبيراً من هذه الدراسات مكتوب باللغة الفرنسية، والثانية أن المراكز البحثية في الجامعات تجبر الباحثين على تناول موضوعات محلية محضة قد لا تعني كثيراً القارئ والباحث العربي غير المغربي
الغريب أن الكثير من هذه الدراسات، رغم محليتها وخصوصيتها الشديدة، مكتوب أيضاً باللغة الفرنسية.
من اللافت ايضاً وجود (سلاسل كتب) تصدرها بعض دور النشر المحلية، ربما من أهمها سلسلة (وحهات نظر) التي تصدر كثيراً من الدراسات الرصينة ذات الشأن المحلي، وتبيعها بأسعار زهيدة تتراوح بين ١٥و٢٠ درهماً، أي ما يعادل من (٦إلى٨ ريالات).
.
من المفردات الغريبة التي ترد في كثير من الكتب المغربية هي مفردة (المخزن)، وتعني في الثقافة المغربية (السلطة، أو الحكومة).
يبدو غريباً لمن يزور المغرب لأول مرة كثافة استخدام المغاربة، وخصوصاً المثقفين منهم للغة الفرنسية. بل وينظر إلى من يتحدث العربية نظرة تشكيك في مدى علميته وقدراته وتأهيله.
لذا يضطر الكثيرون للحديث بالفرنسية حفاظاً على سمعتهم العلمية، ولو لم يكونوا مقتنعين بذلك..
أما الطبقات الغنية في المجتمع فهي تتحدث الفرنسية على الدوام كجزء من (البرستيج) الذي لا تستطيع التخلي عنه.
بالنسبة لي أنا العبد الفقير إلى الله، فلا فرق كبيراً عندي بين أن يتحدث الحضور بالفرنسية أو باللهجة المغربية الصرفة. لأنني في كلتا الحالتين لا أدري ما الذي يحكونه!
تعد جامعة محمد الخامس في الرباط الأضخم، ولكن جامعة الأخرين - رغم صغر حجمها - تعتبر الأحدث والأكثر مرموقية في المغرب، حتى إن البعض يسميها (هارفارد العربية).
أول ما دخلت إلى مبنى البرلمان المغربي رأيت أمامي صالات ضخمة وممتدة، ويجلس بها العديد من النواب، بدت لي القاعة فخمة جداً، حيث الفسيفساء الممتدة على الجدران، فكل شيء بها يوحي بهوية الأرض وتاريخها وأصالتها..
وكان الترتيب المعمول به لمقاعد النواب يُشبه ذاك الذي نراه دوماً في مجلس العموم البريطاني.
الجلسة التي حضرناها كانت استجواباً لوزير الاقتصاد المغربي، وبدت بعص مداخلات النواب عنيفة وحادة..
كنت أُتابع من مقاعد الحضور كل ما يجري، حركة النواب، سخونة المداخلات، ردود الفعل، وتدخلات رئاسة الجلسة لفك الاشتباك، أرقب كل ذلك، وأتأمل وأردد: (ربنا يطعمنا).
غادرت المغرب بعالمه المختلف، ورجاله المختلفين، وأسئلته المختلفة، وحركته الإسلامية المتطورة..
كنت أحسب المغرب يعيش في فضائه الخاص البعيد، وإذ به أقرب مما كنت أظن، يعيش كل قضايانا وأسئلتنا، ويتنفس ذات الهواء المشبع بآمال كبيرة، وهموم أكبر.
حكى لي أستاذ جامعي صديق عمل بإحدى الجامعات التونسية أنه قدم إلى مطار تونس وكان في حقيبته كتاب واحد، هو تجديد التفكير الديني لمحمد إقبال، وعند نقطة التفتيش أخذ الموظف هذا الكتاب، وقام بالاتصال بموظف آخر عبر الهاتف وقال له: هناك راكب معه كتاب من كتب سيد قطب!
يقول صاحبي استغربت من قوله هذا، وعرفت أنه لم يعرف الكتاب ولا المؤلف، فقلت له ببرود شديد مستغلاً جهله: يا أستاذ، مؤلف هذا الكتاب هو محمد إقبال وليس سيد قطب، هذا المؤلف زنديق وملحد وليس إسلاميا يقول صاحبي أن الدهشك بدت على وجه الموظف، فقال لي متسائلاً: ولكن عنوانه تجديد التفكير الديني!
قلت له: هو يقصد تدمير التفكير الديني..
عند ذلك لم يزد الموظف على أن ناولني الكتاب وقال لي: تفضل بالدخول!

إذا كانت مطاعم الوجبات الأمريكية السريعة محدودة في المغرب، فهي معدومة في تونس!
وهو ما لم أجد له تفسيراً مقنعاً حتى الآن. خاصة ونحن نرى هذا النوع من المطاعم موجوداً حتى في الدول المتخاصمة فكرياً وسياسياً مع أمريكا والغرب، فكيف بدولة كتونس، ربما تعد الدولة العربية الأمثر قرباً، ثقافياً وسياسياً، من أوروبا وأمريكا؟!
وكان مما استغربته أن كثيراً من هذه المطاعم لا تُشرع أبوابها طوال النهار وحتى آخر الليل - كبقية المطاعم في الدول العربية - بل هي تفتح أبوابها في السابعة مساءً، وتنهي عملها في الحادية عشر مساءً. أي أربع ساعات من العمل لا غير!
https://mail.google.com/mail/u/0/images/cleardot.gif


الجمعة، 17 يناير 2014

كتاب كيف تنقذ حياتك؟

https://mail.google.com/mail/u/0/images/cleardot.gif
كيف تنقذ حياتك
"١٥ درسا. عن كيفية إيجاد الأمل في أماكن غير متوقعة"،
 مايكل جيتس جيل
اصدارات جرير، الطبعة الأولى ٢٠١١، حجم صغير "٢٤٥" صفحة.

عندما تم فصلي من وظيفتي ثم اكتشفت بعدها أنني مصاب بورم خبيث في المخ، ظننت أن حياتي قد انتهت.
وكنت محقاً في ذلك..
فحينئذ كانت حياتي القديمة قد انتهت.
ولكني بدأت حياة جديدة تماماً أفضل من الأولى.
ما لم أكن أتوقعه هو أنه كان بمقدوري أن أخلق حياة جديدة سوف تجعلني أكثر سعادة من أي وقت مضى، وبالرغم من أنه ما من أحد سيختار طواعية أن يتعرض للمآسي على المستوى الشخصي أو الوظيفي، إلا أن تلك التجارب الصادمة قد تكون نِعماً خفية.
في بعض الأحيان، حين تقع أكثر الأمور التي نخشاها، قد تفاجئنا الخسارة وتمنحنا الفرصة للعثور على مستوى جديد تماماً من السعادة.
ذلك لأن ما يُحدث الفارق هو ما تجلبه أنت للحياة وليس ما تجلبه لك الحياة.
لقد تعلمت هذه الدروس بصعوبة؛ فلم أكن أخطط لتعلم أي منها عن طيب نفس. إلا أن الحياة قد جذبتني من تلابيبي وألقتني من مكاني المميز في قمة المؤسسات الأمريكية، ولولا طردي لما استطعت تعلم هذا الدرس.
لقد كنت الابن المفضل لاب مشهور هو "براند جيل" الذي كان يعمل في مجلة نيويوركر.
تلقيت تعليمي في جامعة بيل، وبعد تخرجي قدم لي مالك أضخم وكالة إعلانية في العالم وظيفة عنده.
وحيث أنني كنت أملك كل شيء، فلم أكن على استعداد لخسارة أي شيء.
ولهذا السبب كنت كالمصعوق بينما أرى حلمي الأمريكي يتحول إلى أسوأ كابوس وأنا في الثالثة والخمسين من عمري.
لقد تمت دعوتي على الإفطار ثم فُصلت.
لقد تعلمت الدرس القاسي، فكوني مخلصاً لهم على مدار ستة وعشرين عاماً، وذهابي إلى كل مكان طلبوا مني الذهاب إليه، وقيامي بكل ما طلبوا مني القيام به لم يكن يعني أن يكونوا هم مخلصين لي. فالمكاسب كانت أهم من الأشخاص.
وأنا في الثالثة والستين ذهبت لإجراء فحص طبي روتيني فاكتشفت أنني مصاب بورم العصب السمعي، لم يكن ورماً سرطانياً ولكنه كان من الممكن أن يصبح ورماً خبيثاً في المخ.
وبينما كنت أعيش وسط غمامة من اليأس، ذهبت إلى زيارة الحي الذي قضيت فيه سنوات عمري الأولى، ولاحظت وقتها أن هناك مقهى ستاربكس يقع عند ملتقى شارعين.
وفي الداخل كانت هناك امرأة أمريكية من أصول افريقية، كانت مديرة المحل، وكانت تأمل في تعيين أي شخس في ذلك اليوم، فعرضت علي وظيفة، فوافقت دون تحمس.
ولحسن الحظ كنت احتفظ بمفكرة، اكتب فيها جملة أو جملتين قبل ذهابي إلى النوم كل يوم، وبعد مرور عام على عملي
في ستاربكس أعدت قراءة المفكرة، وقرات وصفي لمدى اليأس والاكتئاب الذي كنت عليه في البداية، ثم مدى السعادة التي أصبحت عليها بعد مرور عام من العمل هناك.
لقد أصبحت أرى أن هناك نوعاً من السرور في خدمة الآخرين وهو ما كان من المستحيل أن تراه وأنت تحاول التحكم في الآخرين.
كما توصلت إلى إدراك أنني لم أكن سيد الكون، ولكنني مجرد جُسيم من الطاقة في هذا الكون.

تنبع سعادتي في مقهى ستاربكس من أن الوظيفة مؤقتة الدوام التي منحها لي وفرت لي حياة رائعة "كاملة الدوام".
فيما سبق، كانت حياتي مليئة بمشاكل الإعلانات، وحتى عند تواجدي بالمنزل كنت أفكر في سياسات الشركة والاجتماع القادم... الخ
إن القيام بإعداد كوب قهوة أمر أكثر إرضاء وإمتاعاً بالنسبة لي من الجلوس في اجتماع، محاولاً اكتشاف كيفية التأثير على شخص ما لشراء ما ربما أنه لا يحتاج إليه.
إن مساعدة الأشخاص - زملائي وزبائني - حتى في أبسط الأمور، يرفع المعنويات بدرجة أكبر كثيراً من القلق بشأن رضا وسعادة رؤساء مجلس الإدارة ذوي الدخول الضخمة.
حين تتحدث عن مأساتك مع شخص آخر، فإنها تصبح أقل إيلاماً وتصير سبيلا للشعور بعاطفة جديدة أكثر عمقاً والتي يمكن أن تؤدي بدورها إلى طريقة أفضل للعيش.
بعد أن أغلقت مقهى ستاربكس الذي أعمل فيه، ونظراً لاحتمال عدم لحاقي بالقطار العائد إلى برونكسفيل، كان علي أن أتحرك. لقد كنت مندهشاً بشدة، هل من الممكن فعلا أن أكون سعيدا، بعدما انتهيت لتوي من تنظيف الأرضية بعد يوم عمل في "وظيفة متواضعة"!
لقد كنت أظن أنني من الممكن أن أكون سعيدا فقط إذا كنت جالساً على مكتب فخم ويقوم الآخرون على خدمتي.
لقد كانت حياتي كلها في مكتبي، وتركت كل شيء آخر وراء ظهري، ولم أفكر أبداً في الاستماع إلى قلبي لأرى ما إذا كان كل هذا الكفاح يشعرني بالسعادة أم لا.
والآن أخبرني قلبي أنني لم أكن في حاجة إلى كل تلك الزخارف الدنيوية للنجاح.
لقد ناضلت بكد طوال سنوات حياتي للحفاظ على تلك المنازل الكبيرة وشراء المزيد من الأشياء لملء تلك المنازل بها، وفي تلك الليلة شعرت بأنني متحرر من ذلك العبء.
عندما نسيت اهتمامي الشديد بالنجاح اكتشفت حياة جديدة تماماً باتباع ما يمليه علي قلبي.
لا يمكن أن تغفل عن الأشياء التي تهمك في الحياة إذا كنت على اتصال بقلبك.
لقد وجدت أن الحب ليس مورداً طبيعيا محدودا مثل الغاز والبترول. ولكن في الواقع كلما فتحت قلبك أكثر، بدا أن قلبك ممتلئ بالحب بقدر أكبر.
كل صباح، ابدأ يومي بترديد هذه الحكمة القديمة: "هذا اليوم نعمة من الله، ولهذا فهو يستحق أن تسعد فيه وأن تبتهج".
لقد أخبرني قلبي أنني لا أحتاج إلى وسائل الراحة المادية الضخمة تلك التي كنت يوماً أظن أنني لا أستطيع العيش بدونها
ولم يكن ذلك قاصراً على الزخارف المادية، ولكن على الآداب الاجتماعية كذلك.
ويا له من عبء ثقيل ذلك الذي رفع عن كاهلي بعدما أصبحت غير مضطر للقلق بشأن التوقعات الاجتماعية عالية المستوى.
لقد أدركت أن هناك حياة جديدة يمكن أن تزدهر عندما تضع بعض الحدود الاجتماعية.
منذ أن تركت حياتي السابقة، تعلمت أن السعادة الحقيقية بالنسبة لي تتمثل في التجارب اليومية الصغيرة، وليس في تواجدي داخل حشد من الأشخاص.

لخص "دويتش" كل كفاحاتي بهذا السطر المميز: "أنت لم تعرف ما عليك أن تفعل لأنك منحت كل شيء طوال حياتك".
لقد كان على حق. فنظراً إلى أنني قد منحت كل شيء، لم أعرف كيف أحصل على أهم الأشياء بالنسبة لي.
إن القفز إلى الأمام بثقة بدلاً من الانكماش في خوف كان ضرورياً لتغيير حياتي.
فحين تقفز بثقة، بدلاً من الانكماش والانزواء في خوف متراخياً وعاجزا. بفعل  خوفك، يستطيع الآخرون أن يقدموا لك يد العون، حين تتقدم إلى الأمام.
لقد اكتشفت أن أية وظيفة - تقريباً - خير من عدم وجود وظيفة على الاطلاق.
إن هذه الوظيفة التي حصلت عليها كانت مشبعة على نحو خاص، حيث كنت أشعر بالتحدي على نحو منعش كل يوم في مواجهة مواقف جديدة علي تماماً.
فالقيام بأي شيء جديد للمرة الأولى يشبه في الغالب المجيء إلى الحياة من جديد.
إن الحصول على وظيفة تقوم على استخدام طاقتك لخدمة الآخرين، بدلاً من الشعور بالقلق إزاء نفسك هو نوع خاص من العلاج المميز عند مواجهة الأوقات العصيبة.
نظراً إلى أنني مُنحت الكثير منذ سن صغيرة جداً، لم أعرف أبداً كيف أطلب المساعدة.
لقد كنت شخصاً فخوراً بنفسي، وكنت أشعر بالإحراج الشديد حين أجد أنني في حاجة إلى المساعدة في الحياة إلى درجة أن مجرد طلب المساعدة بالنسبة لي كان بمثابة إهانة علنية.
والآن، بعد ما مررت بذلك السقوط من أعلى الحظوة التي كنت أتمتع بها إلى حياة أفضل أكثر واقعية، أدركت أن طلب المساعدة هو أن تكون متواضعاً بالمعنى الأفضل لهذه الكلمة.
إذا لم تطلب المساعدة حين تكون في أشد الحاجة إليها، فإنك تجازف بالبقاء عالقاً في عالم الحزن الخاص بك.
إن خدمتي للآخرين جعلتني أكثر سعادة مما كنت عليه عند خدمة الآخرين لي.
لقد توصلت اليوم إلى الإيمان بأن البشر يكونون في أقصى سعادتهم حين يفكرون في الآخرين ويجدون طريقة ما للخدمة وتقديم العون كل يوم.
إن خدمة الآخرين هي أعظم نعمة نمتلكها، خاصة باستخدام تلك الطرق البسيطة التي يمكننا خدمة بعضنا البعض بها كل يوم.
ألا يسترعي انتباهك بشكل خاص قيام شخص آخر  بابقاء الباب مفتوحاً لك أو يدعك تدخل إلى المترو قبله؟
من الممكن أن تكون أبسط الخدمات أمراً مرضياً وذلك لأن - على ما أعتقد - خدمة الآخرين بمعناها الأساسي هي ما قد خُلقنا على الأرض لنقوم به.
إن الحياة تكون أكثر إشباعاً حين تحصل على المساعدة من الآخرين وتجد طريقة لمساعدة الآخرين.
لو أنني لم أفصل - طردت خارج نادي الدعاية والإعلان ذلك - لما كنت أبصرت العالم المدهش الموجود وراء العصابة التي كنت أرتديها على عيني.
عندما خلعت العصابة عن عيني، تكشفت لي مجموعة مختلفة من الأشخاص، واليوم أدركت أن كل شخص ألتقي به لديه القدرة على الارتقاء بحياتي.
تذكر: إننا لسنا ما يدل عليه مظهرنا وإنما ما تعبر عنه شخصيتنا.

في كتابه حول "كول بورتر"، يقر أبي حقيقة حياتية واضحة، فيقول: "إن هؤلاء الذين يعانقون الحياة، تتقدم بهم السنون، ولكنهم لا يهرمون أبداً".
لقد عانق أبي الحياة عناقاً متقداً لدرجة أنها منحته روحاً شابة لم تهرم أبداً.
لقد أحبت أمي الحياة واعتبرت كل لحظة بمثابة "مناسبة خاصة". إن روحها هدية عظيمة لي تلهمني وتملأ علي حياتي.
كانت أمي تبدأ كل وجبة بالدعاء الآتي: "تبارك الله الذي من عنده تتنزل النعم، والذي يستحق الحمد من كل البشر"
وكانت تصر على أن ندعو نحن أيضاً بهذا الدعاء ونحن نمسك بأيدي بعضنا حول مائدة الطعام.
لم تتوقف أمي عن شكر الله أو الشعور بالحب والامتنان لكل المخلوقات الأرضية.
بينما كنت أتحدث إلى مجموعة من الأشخاص في متجر الكتب، شمرت كمي، وكشفت عن رسغي. وهتفت قائلاً: "تخلصوا من ساعاتكم"!
رفع الجميع رؤوسهم على إثر صيحتي القوية، وتوقف القليل منهم عن النظر إلى ساعات أيديهم وأجهزة البلاك بيري الخاصة بهم، شاعرين بالذنب.
لقد كنت مثل هؤلاء المذنبين الذين يراقبون ساعات أيديهم؛ حيث كنت دائم النظر إلى ساعة يدي في البيت، وأثناء وجودي مع زملائي في المكتب أو أصدقائي، كنت أنظر خلسة إلى ساعة يدي خائفاً من أن أكون متأخراً عن أي شيء!
إنني أشعر بالقلق على هؤلاء الأطفال الذين يقضون العطلات، وكل الأيام في القيام بأنشطة مجدولة كثيرة جداً لدرجة أنهم بالكاد يجدون فرصة للتوقف والتأمل في الطبيعة أو في أي شيء آخر!
ينبغي علينا أن نخصص بعض الوقت من حين إلى آخر للتأمل في الحياة والشعور بالبهجة التي لا يمكن أن تشعر بها أبداً إلا إذا توقفت عن العمل الدائم وبدأت في الاستغراق في تأمل الوجود من حولك.
واليوم أصبحت أستيقظ من النوم، وأنهض من الفراش ببطء، وأذهب للمساعدة على فتح مقهى ستاربكس الذي ما زلت أعمل فيه في إعداد القهوة.
في وردية الصباح المبكر هذه، لا يكون لدينا وقت لنضيعه، ولكن مع حلول وقت الظهيرة أو في الساعة الواحدة بعد الظهر، أكون حراً في الخروج والاستمتاع ببقية اليوم.
يمكنني أن أذهب للسير، أو قضاء الوقت مع أبنائي، أو قضاء الوقت مع نفسي؛ فبإمكاني أن أتامل، أو أن أقرأ، أو أن أكتب.
لقد منحني عملي في وظيفة بدوام جزئي حياة بدوام كامل.
هل تلاحظ أننا في أمريكا حين نلتقي بشخص جديد، فإننا دائماً ما نسأله: "ماذا تعمل"؟، كما لو أن العمل أكثر أهمية من الوجود.
إننا نطلق رأينا على الآخرين بناء على ما يفعلونه وليس بناء على كينونتهم الحقيقية.

إن الحياة مثل حالة الطقس: يمكنك أن تتحدث عنها كثيراً، ولكنك، جوهرياً، لا يمكنك التحكم فيها بشكل كامل، قم بما في وسعك، ثم لا تشغل بالك وأسلم أمرك لخالقك.
إن السعادة ليست في غياب شعورنا بأننا بشر فانون ولكن في تقبل هذه الحقيقة.
إن السعادة ليست في غياب الشعور بالألم ولكنها في تقبله باعتباره جزءاً من الحياة نتعرض له في كل مرحلة عمرية وفي كل الظروف.
لم أتوقع قط أن آخر سنوات عمري ستكون أفضلها، ولكن هذا ما أشعر به الآن.
لقد حدثت لي في هذه السنوات الأخيرة العديد من المفاجآت السعيدة التي لم أكن لأتخيلها.
وبطريقة ما، أعتقد أن الله قد ادخر لي الأفضل لأتمتع به في آخر العمر.
أذكر أن "وينستون تشرشل" عندما أصبح رئيساً للوزراء في عقده الستين، قال: "ما كانت حياتي إلا استعداداً لهذه الساعة".
لقد أصبحت قدرتي على الملاحظة في هذه الأيام كما لو أنني قد اكتسبت وضوحاً خاصاً.
لا ريب في أن الحياة تتحسن بأشكال عدة حين تتقدم بنا السن؛ حيث إننا نصير أكثر وعياً بالحياة ونتمتع بالحكمة.
حين قال "ميس فان دير روه": "كلما كانت الأشياء أبسط، كان ذلك أفضل"، فإنه كان يتحدث عن الهندسة المعمارية، ولكن فكرته كانت تنطبق على الحياة كذلك.
إننا جميعاً نأتي إلى هذه الحياة دون متاع؛ ولكن ما إن وصلت إلى الخمسينيات من عمري، كنت مثل هؤلاء المسافرين الذين تراهم يصارعون على نحو هستيري عبر المطار، محملين بالكثير من الحقائب الزائدة الممتلئة بالأشياء التي اشتروها خلال رحلتهم..
لقد أمضيت معظم حياتي أعمل جاهداً لمراكمة الممتلكات المادية، ولم أدرك أنني مع كل رغبة شديدة في الشراء كنت أضيف حملاً على العالم الذي أحمله على عاتقي.
إن الممتلكات الشخصية لها طريقة خاصة في شغل ليس فقط عقلك، ولكن قلبك وروحك كذلك، ودائماً لا يمكنك التوقف عن التفكير في ممتلكاتك حين تتطلع إلى الحصول عليها ثم بعد ذلك تخشى خسارتها.
في السنوات الأخيرة، جعلنا الحلم الأمريكي - إلى حد ما - يصبح مرادفاً للطموح في الامتلاك.
إن الحياة والحرية والبحث عن السعادة لا تعني الرغبة الجشعة في الحصول على المزيد من الممتلكات.
حين انفجرت فقاعة التميز التي كنت أحيا بداخلها، شعرت بالفزع.
ولكن اتضح أن خروجي من فقاعتي هو أفضل شيء حدث لي في حياتي..
لقد حررني لأكون نفسي.
https://mail.google.com/mail/u/0/images/cleardot.gif