الأربعاء، 25 يونيو 2014

كتاب الفوائد

كتاب: الفوائد
تأليف: ابن قيم الجوزية
دار النشر: المكتبة العصرية
دأب العلماء على جمع ما يستحسنونه – مما طالعوه في كتاب أو استفادوه من جليس أو نقلوه من شيخ أو انقدح في أذهانهم من فكر – في مجموع غير موحد الموضوع لكن عميم الفائدة. ومن جملة هذه الكتب التي ذاع صيتها، كتاب الفوائد للإمام ابن قيم الجوزية.
"قاعدة جليلة"
إذا أردت الانتفاع بالقرآن: فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضورك من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى:
(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)
وقوله: (لمن كان له قلب) المراد به القلب الحيّ الذي يعقل عن الله.
وقوله: (أو ألقى السمع) أي وجه سمعه، وأصغى حاسة سمعه إلى ما يُقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام.
فإذا حصل المؤثر وهو القرآن؛ والمحل القابل، وهو القلب الحي؛ ووجد الشرط، وهو الإصغاء؛ وانتفى المانع، وهو انشغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر.
"فائدة جليلة"
تفسير آية (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)
أخبر سبحانه أنه جعل الأرض ذلولاً منقادة للوطء عليها، وحفرها، وشقها، والبناء عليها، ولم يجعلها مستصعبة ممتنعة على من أراد ذلك منها.
فمن بركة الأرض أن الحيوانات كلها وأرزاقها وأقواتها تخرج منها.
ومن بركتها أنك تودع فيها الحب فتخرجه لك أضعاف أضعاف ما كان.
ومن بركتها أنها تحمل الأذى على ظهرها، وتخرج لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها؛ فتواري كل قبيح منه كل قبيح، وتخرج له كل مليح.
والمقصود: أنه سبحانه جعل لنا الأرض كالجمل الذلول الذي كيفما يُقاد ينقاد.
طريق معرفة الله:
الرب تعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين:
أحدهما: النظر في مفعولاته.
والثاني: التفكر في آياته وتدبرها.
فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة.
قال بعض العارفين: كيف أطلب الدليل على من هو دليل لي على كل شيء.


الضدان لا يجتمعان:
إذا كان القلب ممتلئاً حُباً للباطل اعتقاداً ومحبة، لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع. كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع، لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه، إلا إذا فرّغ لسانه من النطق بالباطل. وكذلك الجوارح، إذا اشتغلت بغير الطاعة، لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرّغها من ضدها.
حكم وفوائد:
إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.
أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وانفع لها في معادها.
لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين.
من عظّم وقار الله في قلبه أن يعصيه وقّره الله في قلوب الخلق أن يذلوه.
يا آدم لا تجزع من قولي لك (اخرج منها) فلك ولصالح ذريتك خلقتها.
يا آدم لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك، فقد اُستخرج منك داء العجب وألبست خلعة العبودية (وعسى أن تكرهوا).
كيسك: حذقك وفطنتك.
عبر وحكم بالغة:
من فقد أنسه بين الناس، ووجده في الوحدة، فهو صادق ضعيف.
ومن وجده بين الناس، وفقده في الخلوة، فهو معلول.
ومن فقده بين الناس، وفي الخلوة، فهو ميت مطرود.
ومن وجده في الخلوة، وفي الناس، فهو المحب الصادق القوي في حاله.
ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها.
ومن كان فتحه بين الناس ونصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم.
فأشرف الحوال أن لا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه؛ فكن مع مراده منك ولا تكن مع مرادك منه.

(معرفة الله والإعراض عنه)
من أعجب الأشياء: أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وان تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته.
وأعجب من هذا: علمك أنك لا بد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت عنه مُعرض، وفيما يُبعدك عنه راغب!
 مصادر الحرام:
ما أخذ العبد ما حُرم عليه إلا من جهتين:
إحداهما: سوء ظنه بربه، وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً.
والثانية: أن يكون عالماً بذلك، وأن من ترك لله شيئاً أعاضه خيراً منه، ولكن تغلب شهوته صبره، وهواه عقله.
فالأول من ضعف علمه، والثاني من ضعف عقله وبصيرته
قال يحيى بن معاذ: من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يرّده.
قلت: إذا اجتمع عليه قلبه، وصدقت ضرورته وفاقته، وقوي رجاؤه، فلا يكاد يُرد دعاؤه.
فوائد وحكم متفرقة:
شهوات الدنيا كلعب الخيال، ونظر الجاهل مقصور على الظاهر، فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر.
تا الله ما كانت الأيام إلا مناماً، فاستيقظوا وقد حصلوا على الظفر.
إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور.
لا تسأل سوى مولاك؛ فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه.
إذا خرجت من عدوك لفظة سفهٍ، فلا تُلحقها بمثلها تُلقحها، ونسلُ الخصام نسلٌ مذموم.

حُسن الخلق والتقوى:
جمع النبي "صلى الله عليه وسلم" بين تقوى الله وحُسن الخلق؛ لأن تقوى الله تُصلح ما بين العبد وبين ربه، وحُسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحُسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.
مواعظ وعبر:
بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تُقطع بخطوتين: خطوة عن نفسه، وخطوة عن الخلق؛ فيسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس، ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله؛ فلا يلتفت إلا إلى من دله على الله وعلى الطريق الموصلة إليه.
مواعظ وحكم:
من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس.
من عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه.
أخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله بنفسه، بل أخسر منه من اشتغل عن نفسه بالناس.
منافع الجهاد:
قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلنا).
علق سبحانه الهداية بالجهاد؛ فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً. وأفرض الجهاد: جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا.
إذا رأيت الرجل يشتري الخسيس بالنفيس، ويبيع العظيم بالحقير؛ فاعلم بأنه سفيه.
حكم وفوائد:
لما علم السيد أن ذنب عبده لم يكن قصداً لمخالفته ولا قدحاً في حكمته، علّمه كيف يعتذر إليه (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه).
العبد لا يريد بمعصيته مخالفة سيده ولا الجرأة على محارمه، ولكن غلبات الطبع، وتزيين النفس والشيطان، وقهر الهوى، والثقة بالعفو، ورجاء المغفرة.
ذنب يدل به أحب إليه من طاعة يدل بها عليه.
المعرفة بساط لا يطأ عليه إلا مقرب، والمحبة نشيد لا يطرب عليه إلا مُحب مغرم.
اشتغل به في الحياة يكفك ما بعد الموت.
تالله ما عدا عليك العدو إلا بعد أن تولى عنك الوليّ، فلا تظن أن الشيطان غلب، ولكن الحافظ أعرض.

الاختلاف في حقيقة الإيمان:
وأما الإيمان فأكثر الناس، أو كلهم، يدّعونه (وما أكثرُ الناسِ ولو حرصت بمؤمنين) وأكثر المؤمنين إنما عندهم إيمان مجمل. وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة وعلماً وإقراراً ومحبة ومعرفة بضده وكراهيته، فهذا إيمان خواص الأمة وخاصة الرسول، وهو إيما الصديق وحزبه.
أقرب الوسائل إلى الله: ملازمة السنة، والوقوف معها في الظاهر والباطن، ودوام الافتقار إلى الله، وإرادة وجهه وحده بالأقوال والأفعال، وما وصل أحد إلى الله إلا من هذه الثلاثة، وما انقطع عنه أحد إلا بانقطاعه عنها أو عن أحدها.
ترك الأوامر أعظم من ارتكاب المناهي:
قال سهل بن عبد الله: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي؛ لأن آدم نُهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه، وإبليس أُمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه.
قلت: هذه مسألة عظيمة لها شأن، وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وذلك من وجوه عديدة:
أحدهما: ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله إبليس.
الثاني: أن ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة، وذنب ترك الأمر مصدره في الغالب الكِبر والعزة.
قاعدتا الدين: الذكر والشكر.
مبنى الدين: الذكر والشكر، قال تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون).
وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان، بل الذكر القلبي واللساني، وذكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته، وذكر أمره ونهيه، وذكره بكلامه.
وأما الشكر، فهو القيام له بطاعته، والتقرب إليه بأنواع محابة ظاهراً وباطناً، وهذان الأمران هما جماع الدين؛ فذكره مستلزم لمعرفته وشكره، متضمن لطاعته.
وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس والسماوات والأرض، ووضع لأجلها الثواب والعقاب، وأنزل الكتب وأرسل الرسل.
أنواع المواساة للمؤمنين:
المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال، ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصح والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم.
دخلوا على بشر الحافي في يوم شديد البرد وقد تجرد وهو ينتفض، فقالوا: ما هذا يا أبا نصر؟ فقال: ذكرت الفقراء وبردهم وليس لي ما أواسيهم به، فأحببت أن اواسيهم في بردهم.



الأربعاء، 18 يونيو 2014

كتاب رقائق القرآن

كتاب: رقائق القرآن
المؤلف: إبراهيم عمر السكران
دار النشر: دار الحضارة
الطبعة: الثالثة 2014
إنسان هذا العصر منهمك في دوامة الحياة اليومية، دوامٌ مضنٍ، ورسالة جوال، وبريد إلكتروني، وتعليق فيسبوكي، وخبر تويتري، ومقطع يوتيوبي، وتنقل بين الفضائيات، وأعمال مؤجلة كلما تذكرتها قرصك الهم.. الخ
ومن أفظع نتائج هذا الانهماك المضني في تروس المدنية المعاصرة تلك القسوة التي تدب إلى القلوب فتستنزف الإيمان، وتفزع السكينة الداخلية.
ألم يحن لنا أن نستقطع وقتاً نهرب فيه من هذا التطاحن المعاصر لنعيد شحن أرواحنا بنسيم الإيمان؟
ألم يأن لنا أن نُرقق قلوبنا بالقرآن؟
هذا الكتاب في جوهره هو مشاهدات اجتماعية مررت بها ثم عرضتها تحت سراج القرآن، وانكشف لي فيها معانٍ أخاذة في ترقيق القلب، وتليينه وتزكيته وتطهيره.
من أعاجيب النفوس، وما يمور فيها من الأحاسيس؛ ان بعض الناس يكره ذكر الموت، ويدور في مشاعره الخفية أنه حين يتحاشى ذكره فإنه يبتعد عنه، وأنه حين يذكره فسيكون قريباً منه.
ويتكلف الأسباب المشروعة وغير المشروعة في مدافعة الموت؛ يظن أنه سيؤجل يومه المكتوب، وهذا "الفرار النفسي" من الموت صوره القرآن تصويراً تبكيتياً حين قال تعالى: (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)
بل تأمل ما هو أعجب من ذلك، وهو إن الإنسان يسير بقدميه إلى الموضع الذي كتب الله وفاته فيه، وهو لا يعلم القدر المخبوء، حيث يقول الله تعالى: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم).
أمامنا اليوم فرصة للعمل الصالح قبل أن تأتي هذه الساعة القريبة المفاجئة التي لن تنفع فيها التوسلات بالعودة لزمان العمل.
وقد أخبرنا كتاب الله عن فئام من الناس حين يحضرهم الموت يسألون الله فسحة زمنية يسيرة ليتصدقوا، ولكن بعد ماذا؟ بعد أن فات الأوان؟!
يقول الله تعالى: (وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقولَ رب لولا أخرتني إلى أجلٍ قريب فأصدّق وأكن من الصالحين "10" ولن يؤخر اللهُ نفساً إذا جاء أجَلُها والله خبيرٌ بما تعملون)
برغم أن إنسان هذه الحقبة الزمنية من التاريخ غارق في لجج المدنية المعاصرة ومنتجاتها التقنية والاتصالية، إلا إنه مع ذلك تعتري المؤمن لحظات مفاجئة بين فينةٍ وأخرى تنتشله من هذا المسلسل المتماسك، فيخرج من مدارات التفاصيل الصغيرة، وستعيد وعيه بالحقائق الكُبرى.
لقاء الله قريب ولا زلنا غافلين، كما قال الله تعالى: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلةٍ مُعرضون)
والقرآن أخبر عن المعاد بطرق كثيرة متنوعة. ولم تكن كثرتها مصادفة، ولكنها لأغراض لا تخفى على المهتم بمغزى كلام الله.
والحقيقة ان من بين الآيات التي تحدثت عن اليوم الآخر لفت انتباهي وشدني كثيراً طائفة من الآيات صورت الناس لحظة القيام من قبورهم.
صورت تلك الآيات مشهد الذهول البشري، بالله عليك! انظر كيف يصوّر القرآن مشاعر المقصرين في ذلك اليوم: يقول تعالى: (ولا تحسبن اللهَ غافلاً عمّا يعملُ الظالمون إنما يؤخرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار "42" مُهطعين مُقنعيّ رؤوسهم لا يرتدُ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء)
وصف القرآن هذه الحالة بأنهم "لا يرتدُ إليهم طرفهم"، ومن شدة الفزع والرعب وصف الله القلوب بأنها فارغة فقال: "وأفئدتهم هواء"
ومن التصويرات القرآنية الأليمة لتلك اللحظات، تصوير لحظة الانكسار والذل التي تعتري المُقصّر، يقول تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إن موقنون)
بالله تخيل نفسك مُنكساً رأسك في ذلك اليوم تتمنى العودة لدار العمل، وافجيعتاه!
بل إن الله تعالى تمدّح بتعظيم نفسه بإلقاء الوحي على الرسل لكي ينبهوا الناس على اليوم الآخر، فجعل الله من أعظم وظائف الوحي تذكير الناس بقرب لحظة لقاء الله، كما قال تعالى: (رفيعُ الدرجات ذو العرشِ يلقي الروحَ من أمره على من يشاءُ من عباده لينذر يوم التلاق)
والله إنه لأمرٍ محرج أن يكون الله تعالى يوضح لنا أن من أغراض الوحي تنبيه الناس على لقائه، ونحن غافلون عن هذه الغاية القرآنية العظيمة.
هل نحن حين نتلو القرآن نستحضر أن من مقاصد القرآن تعميق استحضار اليوم الاخر في النفوس؟
هل منحنا الآيات التي تصور مشاهد اليوم الآخر منزلتها التي تستحقها؟
حسناً، كلما استطاع المسلم التخلص من الضباب الكثيف الذي يصنعه الانهماك في الدنيا، ومنح نفسه ساعة تأمل في لحظة صفاء، وتذكر قُرب لقاء الله، فإنه سيتفاجأ بحيوية جديدة تدب في نفسه، سيشعر كأنما قام قلبه باستحمام إيماني يُزيل عنه العوائق والأوضار، ستتغير نظرته لكثير من الأمور.
نعرف جيداً من خلال تجاربنا اليومية أن إيماننا في قلوبنا يمر بحالات متفاوتة، بل شديدة التفاوت.
تارة نشعر بدفء الإيمان في قلوبنا يتصاعد، فيرق القلب ويلين ويخف ويرفرف، فتنيب النفوس وتذعن.
وتارات أخرى نشعر بالإيمان في نفوسنا يتبلد ويفتر، حتى نجد من استثقال الطاعات والتكاسل عنها ما يشعرك أنك مُكبل.
تخيل ما شئت من هذه المراحل والصفات لقسوة القلب، ثم استمع إلى تصوير القرآن لحالة محزنة مخيفة من حالات قسوة القلب، يقول جل وعلا: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارةِ أو أشدُ قسوة).
إنه ليس كالحجارة فقط، بل قد يكون كما تصور الآية "أشد قسوة"!
بالله عليك هل تتخيل قلباً أقسى من الصخر؟
بل إن الله تعالى ذكر فضل الحجر على بعض القلوب، في صورة يتصبب المؤمن منها حرجاً! حيث تستكمل الآية التصوير (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدُ قسوة وإنّ من الحجارةِ لما يتفجر منه الأنهار وإنّ منها لما يشققُ فيخرجُ منه الماء وإنّ منها لما يهبطُ من خشية الله).
وقد لاحظ إمام التفسير قتادة بن دعامة السدوسي هذه المقارنة القرآنية بين الصخور وبعض قلوب بني آدم، فعلّق تعليقاً بديعاً قال فيه: "عذر الله الحجارة، ولم يعذر شقيّ بني آدم".
قد يتصور كثيرٌ من الناس أن "قسوة القلب" مجرد سبب للمعصية، ويغفل الكثيرون عن أن "قسوة القلب" قد تكون نتيجة وعقوبة من الله على المعصية ذاتها، فيُعاقبُ الله العبد إذا عصاه بأن يُسلط عليه قسوة القلب، كما قال الله تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية).
الحقيقة أن قسوة القلب هي نتيجة طبيعية للمعاصي والخطايا بشكل عام، ولكن ثمة عامل له خصوصية في إنتاج قسوة القلب، وهو بكل اختصار: "بُعد العهد عن ذكر الله".
لا أعرف سبباً يُجفف القلب ويُقسيّه مثل الغفلة عن ذكر الله.
ولا أعرف سبباً يُحيى القلب ويُنيره فوراً مثل ذكر الله.
ولاحظ العلاقة بين بعد العهد عن الذكر وقسو ة القلب في قول الله تعالى (فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر الله).
كما أن قسوة القلب تحرم المرء من التضرع لله (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم)
تتحدث كتب النفس، وبرامج الاستشارات التلفزيونية والنصائح الطبية، ونحوها، عن مشكلة يسمونها "مشكلة السهر"، ويتكلمون عن أضرارها، ويطرحون لها حلول وأساليب علاج.
لكن ثمة نوعٍ آخر من السهر لا أرى له ذكراً بينهم، سهر يذكره القرآن، وكلما مررت بتلك الآيات التي تتحدث عن هذا السهر شعر بالخجل.
في أوائل سورة الذاريات لما ذكر الله أهوال يوم القيامة، توقف السياق القرآني، ثم بدأت الآيات تلوح بذكر فريق حصد السعادة الأبدية، واستطاع الوصول إلى "جنات وعيون"، ولكن ما السبب الذي أوصلهم إلى تلك السعادة؟
إنه "السهر المجهول".
تأمل كيف تشرح الآيات سبب وصول ذلك الفريق إلى الجنات والعيون (إنّ المُتقين في جناتٍ وعيون "15" آخذين ما أتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك مُحسنين "16" كانوا قليلاً من الليلِ ما يهجعون "17" )
تأمل كيف كان سبب سعادتهم أن نومهم بالليل "قليل"!
إذن أين يذهب بقية ليلهم؟
إنه يذهب بالسهر مع الله جل وعلا، ذلك السهر المجهول.
بل وتأمل في بلاغة القرآن كيف يجعل البيات قياماً كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن في سورة الفرقان (والذين يبيتون لربهم سُجداً وقياماً).
إنهم يبيتون، لكنهم يبيتون لربهم في سجود وقيام!
ومن ألطف مواضع السهر الإيماني أن الله جعله من أهم عناصر التأهيل الدعوي في بداية الطريق.
الله سبحانه وتعالى لم يجعل أعظم السهر الإيماني في آخر الدعوة النبوية بعد استيفاء التدرج، كلا، بل جعله في أولها، فقال تعالى لنبيه في آيات كادت تستغرق الليل (يا أيها المزمل "1" قم الليل إلا قليلا)
هل كان فعل ذلك مختص برسول الله "صلى الله عليه وسلم"؟
لا، بل كان أصحابه في أيام غربة الدعوة يصلون معه تلك الصلوات التي تستغرق الليل.
يقول تعالى (إنّ ربك يعلم أنك تقومُ أدنى من ثُلثي الليل ونصفه وثُلثه وطائفة من الذين معك).
السابقون الأولون من أصحاب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" خلّد الله قيامهم غالب الليل في كتابه العظيم، أي شرف أعظم من هذا الشرف؟!
أما نحن، فمنا أقوام ينامون الليل كله ويستثقلون دقائق معدودة ليتهجدوا فيها بين يدي الله.

من الأشياء التي تبتهج بها نفسي حين يتهادى إلى أذني صوت أحد كبار السن وهو يذكر الله.
لا أدري لماذا يكون لزجل ذي الشيبة بالتسبيح وقع تنفسح به أرجاء النفس.
خصوصاً إذا كانت تسابيح كبار السن هذه في أواخر الليل، وهم يحملون على أنفسهم إما لتهجد أو تلاوة، أو هم يمشون في سواد الليل وقُبيل أذان الفجر إلى المسجد.
ومن الأمور التي كانت تُثير انتباهي أن كل من رأيت من كبار السن الصالحين اللاهجين بذكر الله، أنهم يعيشون "رضاً نفسياً" عجيباً ومُدهشاً".
وبكل صراحة فإن هاتين الظاهرتين "التسبيح، والرضا النفسي" لم تكونا مرتبطتين في ذهني بصورة واضحة، ولكن مرت بي آية من كتاب الله كأنها كشفت لي سرّ هذا المعنى، وكيف يكون التسبيح سائر اليوم سبباً من أسباب الرضا النفسي.
يقول الله تعالى (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى)
لاحظ أولاً في هذه الآية كيف استوعب التسبيح سائر اليوم، قبل الشروق، وقبل الغروب، وآناء الليل التي هي ساعاته، وأول النهار وآخره.
ماذا بقي من اليوم لم تشمله هذه الآية بالحث على التسبيح؟!
كلما قرأت قول الله تعالى (ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى)، وقوله تعالى (ولقد نعلمُ أنك يضيق صدرك بما يقولون "17" فسبح بحمد ربك)
قلت في نفسي: سبحان من جعل النفوس ترتوي بالرضا من ينابيع التسبيح!
ومن أعجب المعلومات التي زودنا بها القرآن أننا نعيش في عالم يعج بالتسبيح من حولنا، تسبيح الكائنات في هذا العالم مشهد مهيب صوّره القرآن.
تأمل مثلاً كيف أخبرنا الله تعالى أن الرعد يُسبّح: ( ويُسبح الرعدُ بحمده).
وأن الجبال والطير تسبح: (وسخرّنا مع داود الجبال يُسبحن والطير)
بل أخبرنا خبراً عاماً أن كل الكائنات تسبح لله، بما فيها السماوات والأرض نفسها، وما فيهما من مخلوقات، لكن تسبيحها له لغة لا نفقهها كما يقول الله تعالى : (تُسبح له السماوات السبعُ والأرض ومن فيهن وإنّ من شيءٍ إلا يُسبحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم).
 ولا يتأمل المؤمن مثل هذه المنزلة للتسبيح إلا ويُدركه شيء من الألم على فوات كثيرٍ من لحظات العمر عبثاً دون استثمارها بالتسبيح.
وأي شيء أجمل من قضاء دقائق الانتظار، والطريق ولحظات الصمت، في تسبيح الله؟!



  

الأربعاء، 21 مايو 2014

كتاب أثقل من رضوى

كتاب: أثقل من رضوى "مقاطع من سيرة ذاتية"
للكاتبة: رضوى عاشور
دار الشروق للنشر
الطبعة: الثانية 2013
(393) صفحة
تمزج رضوى عاشور في هذه المقاطع من سيرتها الذاتية بين مشاهد الثورة وتجربتها في مواجهة المرض طوال السنوات الثلاث الأخيرة، تربطها بسنوات سابقة وأسبق. تحكي عن الجامعة والتحرير والشهداء، تحكي عن نفسها، وتتأمل فعل الكتابة.
الذي اختار لنا أسماءنا هو جدي لأمي، سمّى الولد طارق مستبشراً بأول الذكور في ذريته المكونة من ست بنات، وحفيدتين من كبرى بناته.
اختار لحفيده اسم طارق ليكون سمياً لفاتح الأندلس وللجبل الذي يحمل اسمه.
فلما جاءت البنت بعد سنتين وتسعة أشهر، اختار لها اسم جبل آخر، لا يقع في الطرف الغربي من المتوسط، بل يقع بالقرب من المدينة المنورة، تضرب به العرب المثل في الرسوخ فتقول: "أثقل من رضوى".
كنت بلغت الرابعة والستين حين بدأ كتابة سيرتي الذاتية، أعي أن هذه السنوات ستفلت حتماً من حدودها، لأن أعمارنا كما هو معروف، تفيض من أعمارنا، وتقفز بلا استئذان إلى ما قبلها أو ما حولها.
واقعة الرابعة من نوفمبر 2010
كان يوم خميس. كنت أرتدي ثوباً أسود فلم يكن مضى على رحيل أمي سوى ثلاثة أسابيع.
دلفت بوابة الدخول إلى حرم الجامعة. أوقف السيارة كالمعتاد منذ أكثر من ثلاثين سنة، في أي مكان خالٍ أمام مباني كلية الآداب أو كلية الحقوق.
سرت باتجاه قصر الزعفران، مقر إدارة الجامعة، وتحديداً مقر رئيس الجامعة ونوابه. أمام المبنى التقيت ببعض الزملاء ثم توافد البعض الآخر من أساتذة جامعتي القاهرة وعين شمس. لم يكن عددنا يزيد على العشرة، وكنا نحمل معنا نص حكم المحكمة الإدارية العليا برفض الطعن المقدم من رئيس الوزراء ووزيري التعليم والداخلية على حكم سابق بإنشاء وحدات للأمن الجامعي لا تتبع وزارة الداخلية، بل تتبع إدارة الجامعة. تقدم الدكتور عبدالجليل مصطفى من الضباط وأعطاهم نسخة من قرار المحكمة وبيان مجموعة استقلال الجامعة. ثم حملنا أوراقنا وبدأنا جولتنا في الجامعة، يحيط بنا مجموعة من الطلاب المساندين لنا، ويتبعنا بعض رجال الأمن بملابس ميدانية.
وعندما وصلنا إلى المساحة الفاصلة بين كلية الحقوق وكلية الآداب، ظهر أول ما ظهر شاب قصير عريض الكتفين، يرتدي تيشيرت أصفر. استوقفتني هيئته قبل أن يقترب، ربما لعرج واضح في مشيته، اقترب من الشاب وانتزع بعض ما أحمله من أوراق وهو يصيح بصوت عالٍ: إيه ده، إيه ده؟ منشورات؟!، وأنا ربما لأنني أرتدي ثوب الحداد على أخي ووالدتي، لا رصيد لدي من العدوانية، أو لأن عرج الولد جعلني أشفق عليه، قلت: يا ابني يا حبيبي، اطلب نسخة أعطيك واحدة، رمقني بنظرة حادة، يقصد أن تكون مخيفة، ثم راح يمزق الأوراق التي أنتزعها مني وهو يواصل التحديق فيّ.
وهنا ظهرت الدكتور عايدة سيف الدولة وسمعتها تصيح: "ده غريب صوروه، صوروه .. "
ولن أفهم إلا لاحقاً أن غريب هو الذي قام مع زملاء له بضرب الطلاب بالجنازير والسلاح الأبيض قبل ذلك بأربعة أعوام في كلية التجارة.
ذهبت إلى ضابط الأمن الواقف بزيه الرسمي على بعد خطوات، مشرفاً بهدوء على ما يجري. قلت له: هؤلاء بلطجية تعدوا على الأساتذة، وأنت تقف متفرجاً. ابتسم وقال: ألا تطالبون بمغادرتنا الجامعة، لماذا نتدخل؟!
وسط هذه الدراما المتشابكة، الهزلي منها والحزين، كانت تدور دراما أخرى، لا على خشبة المسرح أو في المشهد السياسي، بل في رأسي، أعني الرأس المكون من مخ وأعصاب وأنسجة وعظم وجلد.
تورم مزعج خلف أذني اليمنى، يبدأ بحجم حبة اللوز، ثم يكبر، نستأصله، يعاود الظهور بعد عامين أو ثلاثة، هذا هو الحال منذ ثلاثين عاماً.
منذ طفولتي وأنا أوصف بالمطيورة. في المرحلة الابتدائية كانت هذه الملحوظة تتكرر في الشهادة الشهرية، مضافاً إليها في الغالب أنني ثرثارة.
أنسى أشيائي في المدرسة، أصطدم بهذا الشيء أو ذاك: باب، حائط، عامود إنارة.
أما أن أترك شيئاً وكأنه لا يخصني وأذهب في أمان الله، فلا حصر لوقائعه: أنسى حقيبة كتبي أو سترتي الصوفية في أتوبيس المدرسة، أترك محفظتي تراود من يستجيب لها، أنسى حقيبة يدي في المطار..
يوم الأحد اليوم التالي لخروجي من المستشفى. سيقول لي تميم عبارة مقتضبة: هناك مظاهرات حاشدة في تونس. لم يزد، ربما لأنه لم يرغب في نقل أية تفاصيل بسبب وضعي الصحي.
لن أرى صور البوعزيزي وهو يشعل النار في نفسه إلا بعد أسابيع في تسجيل منشور على اليوتيوب. وعبر اليوتيوب أيضاً سأشاهد الكهل الذي يقول: هذه فرصتكم أيها الشباب التونسي، تستطيعون أن تقدموا لتونس ما لم نقدم لها نحن...
يكرر: "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية". كان وجه الرجل وشعره وكلامه يرد لي صورتي وينطق بلساني، أنا رضوى بنت ميّة ومصطفى، المرأة الستينية التي هرمت من أجل لحظة من هذا النوع. الغريب أنني لم أبكِ.
أغطي رأسي بقبعة صوفية أو منديل كبير يخفي الضماد المثبت على الجرح، وأخرج مع تميم ومريد في جولات سياحية غالباً ما تنتهي بالعشاء في مطعم. أو يذهب تميم إلى جامعته ونبقى أنا ومريد في البيت، نتابع الأخبار أو نقرأ، عندما يعود تميم نجلس إلى المائد الزجاجية في المطبخ نأكل ونثرثر أو نستمع لما يحمله من مستجدات في القسم أو أخبار نقلها له سين أو صاد.
لا أفكر في أمر المرض، لأن التفكير فيه قد يفتح علي باباً آخر أحاول أن أبقيه موصداً، لا لأنني أخترت البلادة أو صرف النظر أو خداع النفس، بل لأنني وأنا محاصرة بين جراحة تمت وجراحة على وشك، ومستقبل معلق على احتمالات متفاوتة قد يكون الموت أبسطها، لا أملك سوى تسليم أمري لله ومواصلة الحياة بعادية.

الشباب في مصر أسموا اليوم "يوم الغضب". وبعض المواقع أشارت إلى ثورة. وبدا غريباً أنها ثورة أعلن موعدها على الملأ ونشر على الموقع الإلكتروني مسبقاً مع دعوة للناس للمشاركة.
مريد وتميم قلقان من آمال عريضة لا يتمخض عنها سوى خروج بضعة آلاف. وأنا لا أدري. صادقة لم أكن قادرة على توقع أي شيء.
حين غادرت فراشي صباح 25 يناير وجدت تميم مستيقظاً، كان يجلس بجوار أبيه، أمام كمبيوتره. صاحا في صوت واحد متهلل: حصل!
ستشكل الثورة بمجرياتها، وأسماء شهدائها، وردود فعل النظام عليها والمواقف الدولية منها، جدولنا اليومي. نتابع الأخبار عبر الكمبيوتر. والقنوات المتاحة: السي إن إن، فرانس 24، ونتصل بالأهل والأصدقاء لنعرف المزيد من التفاصيل.
تميم يبدأ في كتابة قصيدة بالعامية المصرية يوم 25 ليلاً، يكملها وينقحها في اليوم التالي، ثم في اليوم الذي يليه؛ يقرؤها على قناة الجزيرة مباشر من مكتبها في واشنطن. قبل أن يغادر البيت، قلت له: يا تميم احذف الأبيات الثلاثة لتي تقول فيها: "واللي هايقعد في بيته بعدها خاين/ اللي هايقعد كأنه سلم التانيين/ للأمن بإيديه وقال له همه ساكنين فين" صعب أن تدين الناس بهذه السهولة. رفض حذف الأبيات. اتجه إلى مكتب الجزيرة وقرأ القصيدة كما أراد.
الغريب أنني حين عدت إلى القاهرة علمت من أكثر من صديق وصديقة أن هذه الأبيات تحديداً جعلتهم وجعلت آخرين من معارفهم يحسمون أمرهم وينزلون إلى الميدان. وكانت هذه المعلومة درساً جديداَ ينبهني أنني امرأة ستينية، لا تملك بالضرورة حكمة شباب يشاركون في الثورة، بعضهم في سن أولادها وبعضهم الآخر يمكن أن يكون من أحفادها.
حاولت الكتابة أكثر من مرة، وعلى الكمبيوتر أكثر من مسودة لمقالات أتممتها أو بدأتها في تلك الفترة، ولم أكملها. أولها مقال بعنوان "مبارك يحرق مصر قبل أن يرحل".
وبعد عام كامل، في أعقاب مذبحة استاد بورسعيد، كتبت عن الألتراس. لم أتم المقال.
نعم كنت خائفة من الكتابة. أو خائفة من اكتشاف أنني غير قادرة عليها، أو ربما كان جسدي الأحدّ ذاكرة من وعيي، مضطرباً ما زال من تلك المشارط التي راحت تقطع فيه من هنا وهناك.
كانت المقالات أضعف مما يقبل به عقلي الأكثر استيعاباً للحدث، باختصار أكتب ما لا يرضيني، وما يرضيني يفوق قدرتي على الكتابة في تلك اللحظة.
بعد عودتي لمصر نزلت إلى الميدان مرات عديدة. أدهن الجزء المجروح من رأسي بمرهم، وأعتمر زيادة في الحرص قبعة كبيرة نسبياً، أحمل علماً تفوقني ساريته طولاً، وأنزل الميدان.
في التحرير مليونية، أي مئات الآلاف من المتظاهرين، وفي أيم بعينها يتجاوزون المليون، وفيه أعلام مرفرفة صغيرة وكبيرة في أيدي الناس وأيدي الباعة، وفيه لافتات ورقية ورسوم جرافيتي على الجدران، وباعة متجولون ونصبا لبيع الشاي والقهوة.
وفي المليونيات يصبح شارع طلعت حرب وشارع التحرير وشارع محمد محمود، مساحات ملحقة بالميدان، تفيض بالمتظاهرين.
نشق طريقنا بصعوبة في شارع طلعت حرب، يتوقف تميم فجأة ويقول لي: من هنا. ندخل بناية فيحملنا المصعد إلى الطابق التاسع. لا ندق الجرس، باب الشقة مردود. يجلس بيير إلى مكتب إلى يسار الداخل، عليه جهاز كمبيوتر، شعرت بحرج لدخولي البيت بلا سابق معرفة. عرفني تميم على بيير، تصافحنا، ثم قالت نوارة "نجم" ببساطة: جئنا لنرى الميدان من الشرفة. قال: تفضلوا.
خرجنا إلى الشرفة. لم أكن بحاجة إلى أن أطل منها لأرى المشهد. كان ممتداً أمامي على مدى البصر، سواءً تطلعت لأسفل أو اكتفيت بالنظر أمامي.
سأرى المشهد من شرفة بيير مرتين، أطل عليه من الطابق التاسع. وسأكون فيه ضمن تفاصيله عشرات المرات. أقف أو أمشي أو أهتف أو أحمل علماً أو يمد لي شاب يده: هاتِ إيدك يا ماما، يعاونني على صعود رصيف عالٍ.
أقف على الصينية وأسمع طبول الألتراس وهتافاتهم قبل أن أراهم ثم أرى جموعهم تقترب وتتقافز وهي تهتف. أتابعهم من موقعي على الصينية المرتفعة قليلاً عن أرضية الميدان. يفاجئني السؤال: هل تتفرجين يا رضوى؟ يملؤني الخجل. أهتف معهم بصوت عالٍ فأعلى، ربما شعور بالذنب لأنني كنت فعلاً أتفرج.
نادراً ما استخدم كلمات نابية، ولا أرتاح حين يستخدمها غيري، ولكنني، إذا انصت لهتافات الألتراس أستغرب لارتياحي، بل تقتضي الدقة الإفصاح عن طرب أشعر به حتى عندما يهتفون في المدرجات وخارج المدرجات بهتافات بذيئة منغمة، مغناة تقريباً.
أطرب لسماعهم لا كصغير يثيره الممنوع، بل كراشدة تقرّ وتعترف أن الصفاقة لا تكمن في هتافاتهم بل في الفعل المتجبر لسلطة فاجرة في سياستها وسلوكها.
قبل الثورة كثيراً ما كنت أكرر أن حكام مصر، أعني مبارك ورجاله، ليسوا كالملك فاروق، حين أعلموا الملك فاروق في قصر رأس التين في الإسكندرية، أن الشعب لا يريده، وقع الملك في هدوء على وثيقة تنازله عن العرش. ورأيناه في "الأفلام التسجيلية، وفيما دونه المؤرخون" يمشي في هدوء ليركب "المحروسة" لتحمله إلى منفاه في إيطاليا. لم يُدر الملك من منفاه الخطط المركبة لاستعادة عرش مصر أو حرقها على رؤوس الضباط الذين استولوا عليها. استكان لقدره وواصل حياته.
منذ سنين وأنا أكرر: ليسوا كالملك، لن يتركوا كراسيهم إلا بدم كثير.
وبدا لي وأنا أتابع مجريات الثورة من بعيد، أنني على حق، خاصة حين غدا واضحاً أن النظام لم يقبل بسقوطه الفعلي. مع نهاية الـ28 من يناير، فأعلن حظر التجول متحججاً كما ورد في البيان بـ"أعمال النهب والتدمير والحرق والاعتداء على الممتلكات الخاصة".
بعد البيان مباشرة انسحب الأمن وبدأ الحرق والنهب، حتى إن بعض شباب التحرير انتقل لحماية المتحف المصري واستغاث من محاولة لاقتحامه، وفتحت أبواب السجون ... الخ
حين عادت لي قدرتي على التفكير الرائق بعد جراحات ثلاث متعاقبة، قلت لنفسي: كنتِ على خطأ. ذهبوا دون ما تخيلتِه من دم، لا لأنهم أقل سوءاً مما تصورتِ، بل لأن الثوار قدموا حلولاً عبقرية واستطاعوا بأعدادهم واحتشاد كل طاقاتهم المادية والثقافية، ودهائهم وخفة روحهم أن يحققوا ما أرادوا بالحد الأدنى من الدماء.
تدريجياً وببطء وعلى مدى شهور لاحقة جاوزن العام، سأعيد النظر في قناعتي المستجدة وأعود إلى فكرتي القديمة، وإن كان السياق الذي تمت في إطاره فاق خيالي. خطة جهنمية، لا أتحرج من وصفها بالمؤامرة.
(مقال قصير عن الكتابة)
الكتابة فعل أناني وطارد يفرض درجة من العزلة الداخلية، ينفيك عمن حولك أو ينفي من حولك، يضعهم على الرف إلى حين، لأنك حتى وإن كنت تجلس معهم، تشاركهم الأكل أو الكلام، فأنت في مكان آخر منشغل به ومأخوذ. نعم الكتابة فعل أناني وطارد.
ينفيهم ليكتب حكايتهم. يُقصيهم ليراهم أكثر. يبتعد ليقترب، ويعزلك ليتيح لك تبديد وجودك المفرد وإذابته في وجودهم ومكانهم وزمانهم، عجيب!
أنا مُدرسة، أرى في رسائل التشاؤم فعلاً غير أخلاقي. قلت ذات مرة إن كل كتاباتي الروائية محاولة للتعامل مع الهزيمة. قلت: الكتابة محاولة لاستعادة إرادة منفية. انهيت رواية "ثلاثية غرناطة" بعبارة: "لا وحشة في قبر مريمة".
في نهاية المحاضرة قلت: "غرناطة ليست فقط حكاية موت واندثار، غرناطة حياة، بستان من المعاني المكنونة في باطن الأرض نذهب إليه عبر الحكاية. والمدهش أن الحكايات التي تنتهي، لا تنتهي ما دامت قابلة لأن تروى".



الأربعاء، 14 مايو 2014

كتاب عبقرية عمر "رضي الله عنه"

كتاب: عبقرية عمر "رضي الله عنه"
عباس محمود العقاد
المكتبة العصرية
(222) صفحة
الكتاب ليس سرداً لسيرة عمر، ولا عرضاً لتاريخ عصره، وإنما هو وصف له، ودراسة لأطواره، ودلالة على خصائص عظمته، واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس، وعلم الأخلاق، وحقائق الحياة.
"لم أرَ عبقرياً يفري فريه..".
كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم، في عمر رضي الله عنه، وهي كلمة لا يقولها إلا عظيم عظماء، خُلق لسياسة الأمم وقيادة الرجال.
وقد كان عمر قوي النفس بالغاً في القوة النفسية، ولكنه على قوته البالغة لم يكن من أصحاب الطمع والاقتحام، ولم يكن ممن يندفعون إلى الغلبة والتوسع في الجاه والسلطان.
يوصف عمر بالعبقرية إذا نظرنا إلى أعماله، ويوصف بها إذا نظرنا إلى تكوينه الذي جعله مستعداً لتلك الأعمال مضطلعاً بتلك القدرة.
كانت نظرة إليه – قبل السماع بعمل من أعماله – توقع في الروع أنه من معدن في الرجال غير معدن السواد، وأنه جدير بالهيبة والإعظام، خليق أن يُحسب له كل حساب.
وقد كان الذين يعرفون عمر أهيب له من الذين يجهلونه.
كان طويلاً بائن الطول، جسيماً صلباً يصرع الأقوياء ويروض الفرس بغير ركاب.
يتكلم فيسمع السامع منه قدر ما رأى من نفاذ قول وفصل خطاب.
كان سريع البكاء إذا جاشت نفسه بالخشوع بين يدي الله، وأثر البكاء في صفحتي وجهه حتى كان يُشاهد فيهما خطان أسودان.
لا تناقض في خلائق عمر بن الخطاب، وليس معنى ذلك أنه أيسر فهماً من المتناقضين، بل لعله أعضل فهماً منهم في كثير من الأحوال. فالعظمة على كل حال ليست بالمطلب اليسير  لمن يبتغيه، وليست بالمطلب اليسير لمن ينفذ إلى صميمه ويحتويه.
إنما الأمر الميسور في التعريف بهذا الرجل العظيم أن خلائقه الكبرى كانت بارزة جداً لا يسترها حجاب. فما من قارئ إلا ويعلم أن عمر بن الخطاب كان عادلاً، وكان رحيماً، وغيوراً وفطناً وكان وثيق الإيمان، عظيم الاستعداد للنخوة الدينية.

لم يكن عمر عادلاً لسبب واحد بل لجملة أسباب:
كان عادلاً لأن ورث القضاء من قبيلته وآبائه، فهو من أنبه بيوت بني عدي. وكان عادلاً لأنه قوي مستقيم بتكوين طبعه. وكان عادلاً لأن آله من بني عدي قد ذاقوا طعم الظلم من أقربائهم بني عبد شمس. وكان عادلاً، بتعليم الدين الذي استمسك به وهو من أهله، بمقدار ما حاربه وهو عدوه، فكان أقوى العادلين، كما كان أقوى المتقين والمؤمنين.
كان عادلاً لأسباب كأنه عادل لسبب واحد لقلة التناقض فيه؛ وربما كان تعدد الأسباب هو العاصم الذي حمى هذه الصفة أن تتناقض في آثارها، لأنه منحها القوة التي تشدها.
كانت الرحمة من صفاته التي وازنت فيه العدل أحسن موازنة. فما عُهد فيه أنه أحب العدل لغضه من الأقوياء المعتدين، كما كان يحبه لنجدته الضعيف المُعتدى عليه.
إن العرب يشتقون الرحمة من الرحم أو القرابة، وهو اشتقاق عميق المغزى يهدينا إلى نشأة هذه الفضيلة الإنسانية العالية، ومودة عمر بن الخطاب لرحمه وذوي قرباه لا تنحصر دلائلها في رحمته لأخته الشاكية الثائرة. فإن المرأة قد تُرحم لضعفها في موقف شكواها ويأسها ولو كانت بعيدة الآصرة، إنما يدل على مودته لذوي قرباه ذلك الحب الذي كان يضمره لأبيه بعد موته، مع شدته عليه وغلظته في زجره وتأديبه. فكان يطيل الحديث عنه، وينقل أخباره، ويُقسم باسمه إلى أن نُهي عن ذلك.
على أن عمر كان يرحم في أمور يحول فيها النفور الديني دون الرحمة عند كثيرين.
فمن ذلك انه رأى شيخاً ضريراً يسأل على باب، فلما علم أنه يهودي قال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟
قال: أسألك الجزية والحاجة والسن!
فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله، فأعطاه ما يكفيه ساعتها، وأرسل إلى خازن بيت المال يقول: انظر هذا وضرباءه فو الله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم.
إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والفقراء هم المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب.. ووضع عنه الجزية.
وقد فرض عمر لكل مولود لقيط مائة درهم من بيت المال، كما فرض لكل مولود من زوجين، هي رحمة قد يحجبها النفور من الزنى وثمراته في نفوس أناس ينفرون فلا يرحمون.
فنحن إذاً بإزاء صفة كبيرة إلى جانب صفة كبيرة: الرحمة إلى جانب العدل، وكلتاهما من البروز  والوثاقة وعمق القرار بمثابة العنوان الذي يدل على صاحبه، أو بمثابة العنصر الأصيل الذي يلازمه ويلابسه ولا يفارقه في جملة أعماله.
لكل شخصية إنسانية مفتاح صادق يسهل الوصول إليه أو يصعب على حسب اختلاف الشخصيات.
وفي اعتقادنا أن شخصية عمر من أقرب الشخصيات العظيمة مفتاحاً لمن يبحث عنه، فليس فيها باب معضل الفتح وإن اشتملت على أبواب ضخام.
والذي نراه ن "طبيعة الجندي" في صفتها المثلى هي أصدق مفتاح "للشخصية العمرية" في جملة ما يؤثر أو يروى عن هذا الرجل العظيم.
فعمر هو الشجاع، الحازم، الصريح، الخشن، المطيع، الغيور على الشرف، السريع النجدة، المحب للنظام، المؤمن بالواجب والحق.
أرأيته وهو يرعى المراتب فينزل درجة من سلالم المنبر بعد أبي بكر لأن الخليفة الأول أحق منه بالتقديم؟
ثم هناك عمر بن الخطاب الذي عشّر الجنود، أي جعلهم عشرات عشرات، ثم قسمهم إلى كتائب وبنود.
وهناك عمر بن الخطاب الذي لم يدير قط تدبيراً كبيراً أو صغيراً في شؤون الدولة إلا بنظام لا يختل أو على أساس لا يحيد.
كان يوماً في مجلس عمر وزياد بن سمية يتكلم وهو يومئذ شاب. فأحسن كعادته في مجال الخطابة والمشورة. فأُعجب به عمر وهتف به: لله هذا الغلام!
لو كان قرشياً لساق العرب بعصاه.
كان عمر يتفاءل بالأسماء، وينظر في الرؤى والمنامات، ويروى عنه في روايات متواترة أنه أنبئ بموته في منام، وأنه رأى كأن ديكاً ينقره نقرتين، وفسروا له الديك برجل من العجم يطعنه طعنتين.
نهج عمر طريقه في الإسلام كما نهج طريقه إلى الإسلام: كلاهما طريق "عمري" هو أشبه به وهو أقدر عليه، وكلاهما طريق صراحة وقوة لا يطيق اللف والتنطع، ولا يحفل بغير الجد الذي لا عبث فيه.
قال في بعض عظاته: "لا تنظروا إلى صيام أحد ولا إلى صلاته، ولكن انظروا من إذا حدث صدق، وإذا ائتمن أدى، وإذا أشفى – أي هم بالمعصية – ورع".
وكان يعجبه دين الرجل القوي الشجاع الذي ينتصر بدينه في ميدان الحياة، وليس بدين الواهن المهزوم الذي تركته الدنيا فأوهم نفسه أنه هو تاركها.
من تمام العلم بإسلام عمر؛ أن نعلم فضل إسلامه مع من لم يكن من أهل الإسلام، فإن الحق الذي يتبعه الرجل مع أهل دينه وحدهم لحق محدود، يدخل في باب السياسات القومية؛ أكثر من دخوله في باب الفضيلة الإنسانية. وإنما يُصبح جديراً باسم الحق، حين يتبعه الرجل مع أهل دينه ومع الخارجين عليه.
وعمر ولا ريب كان أشد المسلمين في إسلامه.
فلو كان الإسلام ظالماً بطبيعته لمن لم يدخلوا فيه، لكان عمر أشد المسلمين ظلماً لهم وقسوة عليهم. لكنه كان في الواقع أشد المسلمين رعاية لعهدهم مذ كان أشد المسلمين غيرة على دينه وعملاً بأدبه.
كان مسلماً شديداً في إسلامه، فلم تكن شدته في إسلامه خطراً على الناس، بل كانت ضماناً لهم ألا يخافه مسلم ولا ذمي ولا مشرك في غير حدود الكتاب والسنة.
كان يحب ويكره كما يحب الناس ويكرهون، ولكن لا ينفعك عنده أن يحبك ولا يضيرك عنده أن يكرهك إذا وجب الحق ووضح القضاء.
قال يوماً لأبي مريم السلولي قاتل أخيه: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح!
فقال له أبو مريم: أتمنعني لذلك حقاً؟ قال: لا قال: لا ضير! إنما يأسى على الحب النساء.
وحسبك من إسلام يحمي الرجل من خليفة يبغضه وهو قادر عليه. فذلك المسلم الشديد في دينه، والذي يشتد فيأمنه العدو والصديق.
عمر كان على نحو من الأنحاء مؤسساً لدولة الإسلام قبل ولايته الخلافة بسنين، بل كان مؤسساً لها منذ أسلم، فجهر بدعوة الإسلام وأذانه، وأعزها بهيبته وعنفوانه.
وكان مؤسساً لها يوم بسط يده إلى أبي بكر، فبايعه بالخلافة، وحسم الفتنة.
وقد وضع لقواده دستور الحرب، أو دستور الزحف من الجزيرة العربية إلى تخوم أعدائها، كأحسن ما يضعه رئيس دولة لقواده وأجناده.
وقد كان يقول، ويعني ما يقول، ويعمل بما يقول.

مر عمر في سوق المدينة، فرأى إياساً بن سلمة معترضاً في طريق ضيق فخفقه بالدرة وقال له: "أمط عن الطريق يا ابن سلمة".
ثم دار الحول ولقيه في السوق فسأله: أردت الحج هذا العام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فأخذ بيده حتى دخل البيت وأعطاه ستمائة درهم وقال له: يا ابن سلمة! استعن بهذه، واعلم أنها من الخفقة التي خفقتك بها عام أول! قال إياس: يا أمير المؤمنين ما ذكرتها حتى ذكرتنيها. فأجابه عمر: أنا والله ما نسيتها.
ماذا يصنع جندي المرور في عصرنا إذا شاء أن يميط عن الطريق ويفض الزحام؟
وماذا تصنع المحاكم في تعويض من أصابه الضرب بغير ضرورة؟
إن جندي المرور ليضرب بالدرة وبما هو أقسى منها، وإن المحاكم لتعوض المضروب بشيء من مال الدولة عن خطأ الجند والموظفين، وعمر قد عوض الرجل من ماله.
إن الأكثرين يحسبون أن الرجل الذي يعجب به الناس لا يعجب هو بأحد، وأن البطل الذي يقدسه عشاق البطولة لا يعشق البطولة في غيره، وأن التطلع إلى الأعلى صفة ينطبع عليها الصغار ليرتفعوا بعض الارتفاع ويحسنوا الخدمة والعون للكبار.
لكن البطل الذي ندرسه هذه الدراسة ينقض ذلك الحسبان، لأنه بطل يروع ويعرف روعة البطولة.
ويستحق الإعجاب غاية استحقاقه، ثم يُخيّل إليك من فرط ولائه لمن يفوقونه أنه خُلق للإعجاب بغيره، ولم يُخلق ليكون هو موضع الإعجاب.
فارق عمر الدنيا والمختلفون فيه ينقصون، والمتفقون على حمد يزيدون، ثم هم يزيدون في حمدهم إياه وثنائهم عليه.
بكى علي يوم موته، فسئل في بكائه فقال: "أبكي على موت عمر، إن موت عمر ثلمة في الإسلام لا ترتق إلى يوم القيامة".
وقال عمرو بن العاص وهو يحدث نفسه: "لله درء ابن حنتمة "اسم أم عمر" أي امرئ كان".
وصفته امرأة خطبها فرفضته وصفاً، لم نسمع فيما قيل عن إيمانه بالله أصدق منه ولا أوجز وأوفى، فقالت أم أبان بنت عتبة بن ربيعة: "إنه رجل أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه، كأنه ينظر إلى ربه بعينه". فهو في الحق أصدق وصف لإيمان هذا الرجل المتفرد بإيمانه كما تفرد بكثير من شؤونه. إنه تجاوز حد الإيمان إلى حد الرؤية والعيان.


الأربعاء، 7 مايو 2014

كتاب: سيرة خليفة قادم

كتاب: سيرة خليفة قادم، "قراءة عقائدية في بيان الولادة"
للمؤلف: د. أحمد خيري العمري
دار النشر: قيام القرآن لأمة قائمة
الطبعة: الأولى 2013
الكتاب يبحث في موضوع "الاستخلاف". موضوع وظيفتنا بوصفنا خلفاء في الأرض.
وهو موضوع "مفتاحي"، بمعنى أنه يُشكل "مفتاحاً" لأساسات مهمة في فهم النص الديني، وفهم وظيفته، وبالتالي فهم المطلوب منا.
كما أن البحث في موضوع الاستخلاف قد أدى إلى فتح "مفاهيم مفتاحية أخرى" لا تقل أهمية ومركزية عن الاستخلاف، كمفهوم "الإيمان والعمل الصالح" وارتباطهما الوثيق قرآنياً، وكذلك مفاهيم "الدنيا" القضاء والقدر، التقوى، وأولي الأمر، وكلها مفاهيم ليست فاعلة في حياتنا اليومية فحسب، ولا تملك تأثيراً مباشراً على ما نتخذه من قرارات في مفترقات الطرق الموجودة في حياتنا فحسب، بل هي تشكل عناصر أساسية في معادلة الاستخلاف، والخلل الذي أصابها أصاب معادلة الاستخلاف في مقتل.

الحديث عن الاستخلاف والخلافة، يرتبط مباشرة بدورنا المنشود في هذه الحياة. وهو دور أؤمن شخصياً أنه أبعد بكثير عن مجرد "رفع معدلات التنمية"، أو  "مضاهاة بقية الأمم التي سبقتنا.
هذا الدور عندما نؤمن به حقاً، يكون جزء منا، من تلافيف أدمغتنا، يكون كالوشم على عقولنا ونمط تفكيرنا، على رؤيتنا للأشياء، على تعاملنا مع الأشياء، من أبسطها، كرمي ورقة في الشارع، إلى أضخمها، كالتحديات الكبرى التي تواجه الأوطان والأمم، مروراً بتربية الأبناء، إلى سبر أغوار العلوم، إلى نشر الوعي..
إن البحث عن سؤال صحيح لطرحه قد يكون أهم بكثير من إيجاد الجواب الصحيح لأسئلة غير مهمة.
لذلك فمن المهم جداً، أن نطرح السؤال الصحيح أولاً، من أجل الوصول لاحقاً إلى الجواب الصحيح.

لماذا نحن هنا، على هذا الكوكب؟
سؤال لماذا نحن هنا؟ يرتبط بوجودنا المباشر على سطح الأرض، وبالتالي يرتبط بما نفعله على هذه الأرض، ولهذه الأرض، إنه سؤال وجودي تماماً؛ لأنه يرتبط بماهية وجودك، بكل ما هو أنت، بكل ما أنت من أجله.
الهدف من وجودنا، هو قضية "عقائدية" بطريقة ما، أي أنه يدخل في صميم عقيدتنا وإيماننا، فلفظ العقيدة الذي اشتق من الفعل "عقد" تنطبق تماماً على إيماننا بما خُلقنا من أجله، الذي هو "عقدة الأمر"، فحياتنا كلها على كوكب الأرض تقوم على ما سنفعله فيها، وما سنفعله فيها يعتمد بشكل أو بآخر على إيماننا بوظيفتنا فيها.
فالأمر ليس قضية نسبية، وليس مجرد وجهة نظر. ليس رأياً قد يحتمل الصواب والخطأ. لا الأمر يتعلق بالعقيدة، والعقيدة ليست رأياً عابراً في قضية عابرة.

عندما تنزل القرآن تباعاً كان يقوم بعملية إعادة تشكيل للإنسان.
لم يكن الإنسان الذي نشأ في الجاهلية مثل ورقة بيضاء.
كان هناك كثير من المفاهيم التي شكلت هذا الإنسان الجاهلي، ليس فقط أوثان الجاهلية وأصنامها، بل أيضاً كثير من المفاهيم المرتبطة بهذه الأوثان، عادات، تقاليد، نمط تفكير...الخ
كانت شهادة التوحيد "لا إله إلا الله" تعني ضمن ما تعنيه، نسفاً لذلك الإنسان القديم الذي نشأ وتكون في الجاهلية.
وتعني أيضاً إعادة تكوينه من جديد على مفاهيم جديدة ورؤية جديدة للعالم ولنفسه ولدوره في هذا العالم.
كل لفظ استخدمه القرآن الكريم كان له معنى في لسان العرب، ولكنه فُهم من جديد في سياق مختلف عندما طُرح في القرآن.
كلمة "خلف" وربما مشتقاتها كانت معروفة عند العرب، وتعني شيئاً مرتبطاً بـ "جعل أحدهم مكانه".
ثم جاء القرآن، فصار كل شيء له معنى مختلف، معنى أكثر توهجاً.
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله...)
الحكم، الحق، الابتعاد عن الأهواء.
هذه المفاهيم الثلاثة، اثنان منها إيجابيان يؤديان إلى الفتح، والثالث سلبي يُستخدم للإغلاق، جاء ذكرها نتيجة لكون داود خليفة.
أي أنها جزء من متطلبات الخلافة، ومن استحقاقاتها.
الحكم هنا في سياق الاستخلاف لا يتحدث عن أي حكم، إنه يتحدث عن "حكم" يكون هو الحكم الصواب، حكم يكون جزء من فصل الخطاب.
الحكم بالحق، هو الحكم الذي أمر الله عبد داود أن يحكم به، وهذا يقودنا إلى مفهوم الحق، فالحق مفتاح من ثلاثة مفاتيح لا يمكن فهم مفهوم الخلافة إلا بها جميعاً.
(واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا...)
إنه التذكير إذن، وهو تذكير يعني ضمناً، ان الحقيقة "المذكر" بها هي حقيقة منسية، تحتاج إلى تذكير.
كيف ينسى الإنسان معلومة مهمة جداً؟
ما لآلية التي تجعله ينسى شيئاً مهماً "مثل نسيانه أنه الخليفة"؟
ما كان الإنسان سينسى "ما خلق من أجله، وظيفته الأصلية" لولا أنه اخترع عشرات الوظائف الصغيرة التي أثقل بها ذاكرته ووعيه، حتى غطت على "ذكرى الوظيفة الأصلية".


سورة الأنعام: نعمة أن تكشف أنك إنسان.
ليست سورة الأنعام أول سورة ذكرت فيها كلمة خليفة أو لفظ مشتق من الفعل خلف، لكن الإشارة إلى "الخلافة" في خاتمتها تجعلها في موضع مهم، إذ إن كل ما في السورة، ينتهي ليصب في خاتمتها.
لآية الخاتمة في السورة هي:
(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب)
وفيها 164 آية تصب كلها في هذه الآية، في كونه تعالى جعلنا (خلائف الأرض)
كل ما جاء في سورة الأنعام مما يعد اليوم جزء من عقيدتنا في الله، يصب في تلك الآية الخاتمة التي تقول لنا: إنه سبحانه جعلنا (خلائف الأرض)
إنها عقيدة أيضاً. مثلما أنه كتب على نفسه الرحمة.
ومثلما أنه خلق السماوات والأرض، وأنه خلقنا من نفس واحدة، وأنه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
كلها عقائد لا جدال فيها. كلها مما نؤمن به، وإيماننا به يجعلنا مسلمين.
كذلك أنه جعلنا "خلائف" هذه أيضاً عقيدة.
كل ما في الأمر "أنهم لم يدرجوها في كتب العقائد التي درسونا إياها. لكنها بقيت في القرآن، وهذا هو المهم.
صراط الاستخلاف: من العقل نبدأ
(قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم...) صورة للآية
الإيمان الواعي الذي يعد "العقل" شريكاً في الوصول، لا عقبة يجب تجاهلها أو الالتفاف حولها كما في أغلب الديانات المعروفة بصيغتها الحالية، هو الذي يمكن أن يوصل إلى الاستخلاف.
الآيات التي تتحدث عن "صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي"، تتحدث بصيغة فريدة شخصية وحميمية جداً.
تتحدث عن "مشروع حياة".
ابتدأ الأمر بالصلاة، فهي الشكل الذي يضم المعنى، ودون الشكل لن يكون هناك معنى، مهما حاول المنفلتون إيهامنا بأن المهم هو ما في القلب، وأن المهم هو ما نفعله، بغض النظر عن صلاتنا أو عدم صلاتنا.
والنسك كل تضحية تقدمها في حياتك على مذبح التقرب إلى الله عز وجل، بعضهم يقدم كل وقته، كل مواهبه، كل جهده ليكون خالصاً لله.
والمحيا غير الحياة، محياي ما أحيا من أجله، ما يجعل لحياتي معنى.
ومما تي ما أموت لأجله، ما أتوج به حياتي عندما لا يكون هناك حل آخر، فأنهيها بما يصب في قضيتي، عندما يكون موتي أكثر جدوى من حياتي.
هذا هو ملخص الحياة، عندما يكون في حياتك "قضية". والحياة في نهاية الأمر "قضية".

في سورة البقرة: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)
لم يكن هناك قبل الآية الثلاثين من سورة البقرة أي نص ديني لأي دين كتابي سابق ينص على أن الإنسان هو "خليفة" لله في الأرض.
الإسلام عبر القرآن، هو أول من صرّح بذلك.
أن يكون الدين هو المحرك الأساسي لأمة ما، كان يستلزم أن يحتوي هذا الدين على عوامل إيجابية "قائدة" بالذات في رؤية الإنسان لنفسه ولدوره في الحياة.
إن الاستخلاف نفسه عبادة:
لقد امتزج المعنى من (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) مع معنى (إني جاعل في الأرض خليفة) وصار معنى العبادة مرتبطاً بالاستخلاف في الأرض، كما لو أن عبادة الاستخلاف صارت جزءاً أساسياً من عبادات هذا الإنسان الجديد.
لم تعد العبادة محض شعائر وطقوس تؤدى لله عز وجل، بل صارت عملاً يؤدى لهدف، ويقصد به خلافة لله على أرضه.
إن السياق في هذه الآية يجعل "الاستخلاف" المنصب الوظيفي الذي وكل للنوع الإنساني،

كيف فهم الجيل الأول، جيل الصحابة، الجيل الذي أعاد بناء العالم، كيف فهم هذه الآية؟
(إني جاعل في الأرض خليفة)
ذهب ابن عباس وابن مسعود في تأويل الآية، حيث نقل عنهما الطبري: إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه.
الاستخلاف فرض عين لا فرض كفاية: الآية 30في سورة البقرة ألغت ذلك الفارق الوهمي بين فرض العين وفرض الكفاية، صار العبء الإنساني عبأ ملقى على كل فرد بعينه، لم يعد الخليفة نبياً أو رسولاً أو ملكاً أو قائداً بالضرورة، بل صار الخليفة كل فرد، صار النوع الإنساني، صار لكلٍ نصيبه من استخلاف لن تتحقق نتائجه النهائية إلا بعد أن يمر بهذه المرحلة التي يكون فيها كل فرد هو الخليفة شخصياً.

(والعمل الصالح يرفعه)
في لسان العرب صلح ضد فسد، وفسد ضد صلح.
أي أن معنى الصلاح والفساد هنا ليس ثابتاً، بل لا يعرف إلا بحالة معاكسة، حالة مضادة.
وهذا يجعل مفهوم كل من الفساد والصلاح نسبياً ومتغيراً، فما يكون صالحاً في وقت ما، قد يكون فاسداً لاحقاً في مرحلة أخرى.
فلماذا لا نفهمه في العمل الصالح؟
لماذا نستغرب عدم وجود قالب محدد وواضح يؤطر العمل الصالح، بينما من الطبيعي ألا يكون هناك شيء كهذا.
العمل الصالح أعلى وأوسع من كل القوالب المحددة. إنه الشرط الثاني الذي يحقق الاستخلاف؛ يحقق ما خُلقنا لأجله.
العمل الصالح صلاحيته مرهونة دوماً بواقع متغير، لذا يجب أن تراعى الصلاحية هذه وتتجاوز إمكانية التقادم عبر تقديم آليات ووسائل جديدة لهذا العمل الصالح لكي يكون صالحاً باستمرار.
العمل الصالح: العمل بمرتبة القبلة: كان معنى آخر يمكن استمداده من لسان العرب، يفتح لنا آفاقاً تقربنا من المعنى الحقيقي للعمل الصالح.
ماذا يقول لسان العرب عن هذا؟
يقول ببساطة ما نسيناه تماماً، معلومة جديدة بالنسبة للكثيرين وأنا منهم. يقول: إن "صالح" هو اسم علم من أسماء مكة!
هذا المعنى الأخير يربط الصلاح وكل ما يرتبط به من معانٍ بقضية "العمران" و"البناء الاجتماعي" بقضية البناء الحضاري.
عندما ترتبط كلمة "صالح" بهذه المدينة تحديداً، فإن تعبير "العمل الصالح" سيرتبط بمكة المعنى، مكة الرمز الحضاري، مكة المدينة التي يجب أن تتجه إليها حضارتنا.
وهذا سيجعل "العمل الصالح" مرتبطاً فوراً بمعنى العمل الذي يصب في حضارة "لاإله إلا الله".

وكل عمل لا يصب في ذلك، في بناء وعمران وإعمار مجتمع لا إله إلا الله، لن يكون ضمن العمل الصالح.