الأربعاء، 21 مايو 2014

كتاب أثقل من رضوى

كتاب: أثقل من رضوى "مقاطع من سيرة ذاتية"
للكاتبة: رضوى عاشور
دار الشروق للنشر
الطبعة: الثانية 2013
(393) صفحة
تمزج رضوى عاشور في هذه المقاطع من سيرتها الذاتية بين مشاهد الثورة وتجربتها في مواجهة المرض طوال السنوات الثلاث الأخيرة، تربطها بسنوات سابقة وأسبق. تحكي عن الجامعة والتحرير والشهداء، تحكي عن نفسها، وتتأمل فعل الكتابة.
الذي اختار لنا أسماءنا هو جدي لأمي، سمّى الولد طارق مستبشراً بأول الذكور في ذريته المكونة من ست بنات، وحفيدتين من كبرى بناته.
اختار لحفيده اسم طارق ليكون سمياً لفاتح الأندلس وللجبل الذي يحمل اسمه.
فلما جاءت البنت بعد سنتين وتسعة أشهر، اختار لها اسم جبل آخر، لا يقع في الطرف الغربي من المتوسط، بل يقع بالقرب من المدينة المنورة، تضرب به العرب المثل في الرسوخ فتقول: "أثقل من رضوى".
كنت بلغت الرابعة والستين حين بدأ كتابة سيرتي الذاتية، أعي أن هذه السنوات ستفلت حتماً من حدودها، لأن أعمارنا كما هو معروف، تفيض من أعمارنا، وتقفز بلا استئذان إلى ما قبلها أو ما حولها.
واقعة الرابعة من نوفمبر 2010
كان يوم خميس. كنت أرتدي ثوباً أسود فلم يكن مضى على رحيل أمي سوى ثلاثة أسابيع.
دلفت بوابة الدخول إلى حرم الجامعة. أوقف السيارة كالمعتاد منذ أكثر من ثلاثين سنة، في أي مكان خالٍ أمام مباني كلية الآداب أو كلية الحقوق.
سرت باتجاه قصر الزعفران، مقر إدارة الجامعة، وتحديداً مقر رئيس الجامعة ونوابه. أمام المبنى التقيت ببعض الزملاء ثم توافد البعض الآخر من أساتذة جامعتي القاهرة وعين شمس. لم يكن عددنا يزيد على العشرة، وكنا نحمل معنا نص حكم المحكمة الإدارية العليا برفض الطعن المقدم من رئيس الوزراء ووزيري التعليم والداخلية على حكم سابق بإنشاء وحدات للأمن الجامعي لا تتبع وزارة الداخلية، بل تتبع إدارة الجامعة. تقدم الدكتور عبدالجليل مصطفى من الضباط وأعطاهم نسخة من قرار المحكمة وبيان مجموعة استقلال الجامعة. ثم حملنا أوراقنا وبدأنا جولتنا في الجامعة، يحيط بنا مجموعة من الطلاب المساندين لنا، ويتبعنا بعض رجال الأمن بملابس ميدانية.
وعندما وصلنا إلى المساحة الفاصلة بين كلية الحقوق وكلية الآداب، ظهر أول ما ظهر شاب قصير عريض الكتفين، يرتدي تيشيرت أصفر. استوقفتني هيئته قبل أن يقترب، ربما لعرج واضح في مشيته، اقترب من الشاب وانتزع بعض ما أحمله من أوراق وهو يصيح بصوت عالٍ: إيه ده، إيه ده؟ منشورات؟!، وأنا ربما لأنني أرتدي ثوب الحداد على أخي ووالدتي، لا رصيد لدي من العدوانية، أو لأن عرج الولد جعلني أشفق عليه، قلت: يا ابني يا حبيبي، اطلب نسخة أعطيك واحدة، رمقني بنظرة حادة، يقصد أن تكون مخيفة، ثم راح يمزق الأوراق التي أنتزعها مني وهو يواصل التحديق فيّ.
وهنا ظهرت الدكتور عايدة سيف الدولة وسمعتها تصيح: "ده غريب صوروه، صوروه .. "
ولن أفهم إلا لاحقاً أن غريب هو الذي قام مع زملاء له بضرب الطلاب بالجنازير والسلاح الأبيض قبل ذلك بأربعة أعوام في كلية التجارة.
ذهبت إلى ضابط الأمن الواقف بزيه الرسمي على بعد خطوات، مشرفاً بهدوء على ما يجري. قلت له: هؤلاء بلطجية تعدوا على الأساتذة، وأنت تقف متفرجاً. ابتسم وقال: ألا تطالبون بمغادرتنا الجامعة، لماذا نتدخل؟!
وسط هذه الدراما المتشابكة، الهزلي منها والحزين، كانت تدور دراما أخرى، لا على خشبة المسرح أو في المشهد السياسي، بل في رأسي، أعني الرأس المكون من مخ وأعصاب وأنسجة وعظم وجلد.
تورم مزعج خلف أذني اليمنى، يبدأ بحجم حبة اللوز، ثم يكبر، نستأصله، يعاود الظهور بعد عامين أو ثلاثة، هذا هو الحال منذ ثلاثين عاماً.
منذ طفولتي وأنا أوصف بالمطيورة. في المرحلة الابتدائية كانت هذه الملحوظة تتكرر في الشهادة الشهرية، مضافاً إليها في الغالب أنني ثرثارة.
أنسى أشيائي في المدرسة، أصطدم بهذا الشيء أو ذاك: باب، حائط، عامود إنارة.
أما أن أترك شيئاً وكأنه لا يخصني وأذهب في أمان الله، فلا حصر لوقائعه: أنسى حقيبة كتبي أو سترتي الصوفية في أتوبيس المدرسة، أترك محفظتي تراود من يستجيب لها، أنسى حقيبة يدي في المطار..
يوم الأحد اليوم التالي لخروجي من المستشفى. سيقول لي تميم عبارة مقتضبة: هناك مظاهرات حاشدة في تونس. لم يزد، ربما لأنه لم يرغب في نقل أية تفاصيل بسبب وضعي الصحي.
لن أرى صور البوعزيزي وهو يشعل النار في نفسه إلا بعد أسابيع في تسجيل منشور على اليوتيوب. وعبر اليوتيوب أيضاً سأشاهد الكهل الذي يقول: هذه فرصتكم أيها الشباب التونسي، تستطيعون أن تقدموا لتونس ما لم نقدم لها نحن...
يكرر: "هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية". كان وجه الرجل وشعره وكلامه يرد لي صورتي وينطق بلساني، أنا رضوى بنت ميّة ومصطفى، المرأة الستينية التي هرمت من أجل لحظة من هذا النوع. الغريب أنني لم أبكِ.
أغطي رأسي بقبعة صوفية أو منديل كبير يخفي الضماد المثبت على الجرح، وأخرج مع تميم ومريد في جولات سياحية غالباً ما تنتهي بالعشاء في مطعم. أو يذهب تميم إلى جامعته ونبقى أنا ومريد في البيت، نتابع الأخبار أو نقرأ، عندما يعود تميم نجلس إلى المائد الزجاجية في المطبخ نأكل ونثرثر أو نستمع لما يحمله من مستجدات في القسم أو أخبار نقلها له سين أو صاد.
لا أفكر في أمر المرض، لأن التفكير فيه قد يفتح علي باباً آخر أحاول أن أبقيه موصداً، لا لأنني أخترت البلادة أو صرف النظر أو خداع النفس، بل لأنني وأنا محاصرة بين جراحة تمت وجراحة على وشك، ومستقبل معلق على احتمالات متفاوتة قد يكون الموت أبسطها، لا أملك سوى تسليم أمري لله ومواصلة الحياة بعادية.

الشباب في مصر أسموا اليوم "يوم الغضب". وبعض المواقع أشارت إلى ثورة. وبدا غريباً أنها ثورة أعلن موعدها على الملأ ونشر على الموقع الإلكتروني مسبقاً مع دعوة للناس للمشاركة.
مريد وتميم قلقان من آمال عريضة لا يتمخض عنها سوى خروج بضعة آلاف. وأنا لا أدري. صادقة لم أكن قادرة على توقع أي شيء.
حين غادرت فراشي صباح 25 يناير وجدت تميم مستيقظاً، كان يجلس بجوار أبيه، أمام كمبيوتره. صاحا في صوت واحد متهلل: حصل!
ستشكل الثورة بمجرياتها، وأسماء شهدائها، وردود فعل النظام عليها والمواقف الدولية منها، جدولنا اليومي. نتابع الأخبار عبر الكمبيوتر. والقنوات المتاحة: السي إن إن، فرانس 24، ونتصل بالأهل والأصدقاء لنعرف المزيد من التفاصيل.
تميم يبدأ في كتابة قصيدة بالعامية المصرية يوم 25 ليلاً، يكملها وينقحها في اليوم التالي، ثم في اليوم الذي يليه؛ يقرؤها على قناة الجزيرة مباشر من مكتبها في واشنطن. قبل أن يغادر البيت، قلت له: يا تميم احذف الأبيات الثلاثة لتي تقول فيها: "واللي هايقعد في بيته بعدها خاين/ اللي هايقعد كأنه سلم التانيين/ للأمن بإيديه وقال له همه ساكنين فين" صعب أن تدين الناس بهذه السهولة. رفض حذف الأبيات. اتجه إلى مكتب الجزيرة وقرأ القصيدة كما أراد.
الغريب أنني حين عدت إلى القاهرة علمت من أكثر من صديق وصديقة أن هذه الأبيات تحديداً جعلتهم وجعلت آخرين من معارفهم يحسمون أمرهم وينزلون إلى الميدان. وكانت هذه المعلومة درساً جديداَ ينبهني أنني امرأة ستينية، لا تملك بالضرورة حكمة شباب يشاركون في الثورة، بعضهم في سن أولادها وبعضهم الآخر يمكن أن يكون من أحفادها.
حاولت الكتابة أكثر من مرة، وعلى الكمبيوتر أكثر من مسودة لمقالات أتممتها أو بدأتها في تلك الفترة، ولم أكملها. أولها مقال بعنوان "مبارك يحرق مصر قبل أن يرحل".
وبعد عام كامل، في أعقاب مذبحة استاد بورسعيد، كتبت عن الألتراس. لم أتم المقال.
نعم كنت خائفة من الكتابة. أو خائفة من اكتشاف أنني غير قادرة عليها، أو ربما كان جسدي الأحدّ ذاكرة من وعيي، مضطرباً ما زال من تلك المشارط التي راحت تقطع فيه من هنا وهناك.
كانت المقالات أضعف مما يقبل به عقلي الأكثر استيعاباً للحدث، باختصار أكتب ما لا يرضيني، وما يرضيني يفوق قدرتي على الكتابة في تلك اللحظة.
بعد عودتي لمصر نزلت إلى الميدان مرات عديدة. أدهن الجزء المجروح من رأسي بمرهم، وأعتمر زيادة في الحرص قبعة كبيرة نسبياً، أحمل علماً تفوقني ساريته طولاً، وأنزل الميدان.
في التحرير مليونية، أي مئات الآلاف من المتظاهرين، وفي أيم بعينها يتجاوزون المليون، وفيه أعلام مرفرفة صغيرة وكبيرة في أيدي الناس وأيدي الباعة، وفيه لافتات ورقية ورسوم جرافيتي على الجدران، وباعة متجولون ونصبا لبيع الشاي والقهوة.
وفي المليونيات يصبح شارع طلعت حرب وشارع التحرير وشارع محمد محمود، مساحات ملحقة بالميدان، تفيض بالمتظاهرين.
نشق طريقنا بصعوبة في شارع طلعت حرب، يتوقف تميم فجأة ويقول لي: من هنا. ندخل بناية فيحملنا المصعد إلى الطابق التاسع. لا ندق الجرس، باب الشقة مردود. يجلس بيير إلى مكتب إلى يسار الداخل، عليه جهاز كمبيوتر، شعرت بحرج لدخولي البيت بلا سابق معرفة. عرفني تميم على بيير، تصافحنا، ثم قالت نوارة "نجم" ببساطة: جئنا لنرى الميدان من الشرفة. قال: تفضلوا.
خرجنا إلى الشرفة. لم أكن بحاجة إلى أن أطل منها لأرى المشهد. كان ممتداً أمامي على مدى البصر، سواءً تطلعت لأسفل أو اكتفيت بالنظر أمامي.
سأرى المشهد من شرفة بيير مرتين، أطل عليه من الطابق التاسع. وسأكون فيه ضمن تفاصيله عشرات المرات. أقف أو أمشي أو أهتف أو أحمل علماً أو يمد لي شاب يده: هاتِ إيدك يا ماما، يعاونني على صعود رصيف عالٍ.
أقف على الصينية وأسمع طبول الألتراس وهتافاتهم قبل أن أراهم ثم أرى جموعهم تقترب وتتقافز وهي تهتف. أتابعهم من موقعي على الصينية المرتفعة قليلاً عن أرضية الميدان. يفاجئني السؤال: هل تتفرجين يا رضوى؟ يملؤني الخجل. أهتف معهم بصوت عالٍ فأعلى، ربما شعور بالذنب لأنني كنت فعلاً أتفرج.
نادراً ما استخدم كلمات نابية، ولا أرتاح حين يستخدمها غيري، ولكنني، إذا انصت لهتافات الألتراس أستغرب لارتياحي، بل تقتضي الدقة الإفصاح عن طرب أشعر به حتى عندما يهتفون في المدرجات وخارج المدرجات بهتافات بذيئة منغمة، مغناة تقريباً.
أطرب لسماعهم لا كصغير يثيره الممنوع، بل كراشدة تقرّ وتعترف أن الصفاقة لا تكمن في هتافاتهم بل في الفعل المتجبر لسلطة فاجرة في سياستها وسلوكها.
قبل الثورة كثيراً ما كنت أكرر أن حكام مصر، أعني مبارك ورجاله، ليسوا كالملك فاروق، حين أعلموا الملك فاروق في قصر رأس التين في الإسكندرية، أن الشعب لا يريده، وقع الملك في هدوء على وثيقة تنازله عن العرش. ورأيناه في "الأفلام التسجيلية، وفيما دونه المؤرخون" يمشي في هدوء ليركب "المحروسة" لتحمله إلى منفاه في إيطاليا. لم يُدر الملك من منفاه الخطط المركبة لاستعادة عرش مصر أو حرقها على رؤوس الضباط الذين استولوا عليها. استكان لقدره وواصل حياته.
منذ سنين وأنا أكرر: ليسوا كالملك، لن يتركوا كراسيهم إلا بدم كثير.
وبدا لي وأنا أتابع مجريات الثورة من بعيد، أنني على حق، خاصة حين غدا واضحاً أن النظام لم يقبل بسقوطه الفعلي. مع نهاية الـ28 من يناير، فأعلن حظر التجول متحججاً كما ورد في البيان بـ"أعمال النهب والتدمير والحرق والاعتداء على الممتلكات الخاصة".
بعد البيان مباشرة انسحب الأمن وبدأ الحرق والنهب، حتى إن بعض شباب التحرير انتقل لحماية المتحف المصري واستغاث من محاولة لاقتحامه، وفتحت أبواب السجون ... الخ
حين عادت لي قدرتي على التفكير الرائق بعد جراحات ثلاث متعاقبة، قلت لنفسي: كنتِ على خطأ. ذهبوا دون ما تخيلتِه من دم، لا لأنهم أقل سوءاً مما تصورتِ، بل لأن الثوار قدموا حلولاً عبقرية واستطاعوا بأعدادهم واحتشاد كل طاقاتهم المادية والثقافية، ودهائهم وخفة روحهم أن يحققوا ما أرادوا بالحد الأدنى من الدماء.
تدريجياً وببطء وعلى مدى شهور لاحقة جاوزن العام، سأعيد النظر في قناعتي المستجدة وأعود إلى فكرتي القديمة، وإن كان السياق الذي تمت في إطاره فاق خيالي. خطة جهنمية، لا أتحرج من وصفها بالمؤامرة.
(مقال قصير عن الكتابة)
الكتابة فعل أناني وطارد يفرض درجة من العزلة الداخلية، ينفيك عمن حولك أو ينفي من حولك، يضعهم على الرف إلى حين، لأنك حتى وإن كنت تجلس معهم، تشاركهم الأكل أو الكلام، فأنت في مكان آخر منشغل به ومأخوذ. نعم الكتابة فعل أناني وطارد.
ينفيهم ليكتب حكايتهم. يُقصيهم ليراهم أكثر. يبتعد ليقترب، ويعزلك ليتيح لك تبديد وجودك المفرد وإذابته في وجودهم ومكانهم وزمانهم، عجيب!
أنا مُدرسة، أرى في رسائل التشاؤم فعلاً غير أخلاقي. قلت ذات مرة إن كل كتاباتي الروائية محاولة للتعامل مع الهزيمة. قلت: الكتابة محاولة لاستعادة إرادة منفية. انهيت رواية "ثلاثية غرناطة" بعبارة: "لا وحشة في قبر مريمة".
في نهاية المحاضرة قلت: "غرناطة ليست فقط حكاية موت واندثار، غرناطة حياة، بستان من المعاني المكنونة في باطن الأرض نذهب إليه عبر الحكاية. والمدهش أن الحكايات التي تنتهي، لا تنتهي ما دامت قابلة لأن تروى".



الأربعاء، 14 مايو 2014

كتاب عبقرية عمر "رضي الله عنه"

كتاب: عبقرية عمر "رضي الله عنه"
عباس محمود العقاد
المكتبة العصرية
(222) صفحة
الكتاب ليس سرداً لسيرة عمر، ولا عرضاً لتاريخ عصره، وإنما هو وصف له، ودراسة لأطواره، ودلالة على خصائص عظمته، واستفادة من هذه الخصائص لعلم النفس، وعلم الأخلاق، وحقائق الحياة.
"لم أرَ عبقرياً يفري فريه..".
كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم، في عمر رضي الله عنه، وهي كلمة لا يقولها إلا عظيم عظماء، خُلق لسياسة الأمم وقيادة الرجال.
وقد كان عمر قوي النفس بالغاً في القوة النفسية، ولكنه على قوته البالغة لم يكن من أصحاب الطمع والاقتحام، ولم يكن ممن يندفعون إلى الغلبة والتوسع في الجاه والسلطان.
يوصف عمر بالعبقرية إذا نظرنا إلى أعماله، ويوصف بها إذا نظرنا إلى تكوينه الذي جعله مستعداً لتلك الأعمال مضطلعاً بتلك القدرة.
كانت نظرة إليه – قبل السماع بعمل من أعماله – توقع في الروع أنه من معدن في الرجال غير معدن السواد، وأنه جدير بالهيبة والإعظام، خليق أن يُحسب له كل حساب.
وقد كان الذين يعرفون عمر أهيب له من الذين يجهلونه.
كان طويلاً بائن الطول، جسيماً صلباً يصرع الأقوياء ويروض الفرس بغير ركاب.
يتكلم فيسمع السامع منه قدر ما رأى من نفاذ قول وفصل خطاب.
كان سريع البكاء إذا جاشت نفسه بالخشوع بين يدي الله، وأثر البكاء في صفحتي وجهه حتى كان يُشاهد فيهما خطان أسودان.
لا تناقض في خلائق عمر بن الخطاب، وليس معنى ذلك أنه أيسر فهماً من المتناقضين، بل لعله أعضل فهماً منهم في كثير من الأحوال. فالعظمة على كل حال ليست بالمطلب اليسير  لمن يبتغيه، وليست بالمطلب اليسير لمن ينفذ إلى صميمه ويحتويه.
إنما الأمر الميسور في التعريف بهذا الرجل العظيم أن خلائقه الكبرى كانت بارزة جداً لا يسترها حجاب. فما من قارئ إلا ويعلم أن عمر بن الخطاب كان عادلاً، وكان رحيماً، وغيوراً وفطناً وكان وثيق الإيمان، عظيم الاستعداد للنخوة الدينية.

لم يكن عمر عادلاً لسبب واحد بل لجملة أسباب:
كان عادلاً لأن ورث القضاء من قبيلته وآبائه، فهو من أنبه بيوت بني عدي. وكان عادلاً لأنه قوي مستقيم بتكوين طبعه. وكان عادلاً لأن آله من بني عدي قد ذاقوا طعم الظلم من أقربائهم بني عبد شمس. وكان عادلاً، بتعليم الدين الذي استمسك به وهو من أهله، بمقدار ما حاربه وهو عدوه، فكان أقوى العادلين، كما كان أقوى المتقين والمؤمنين.
كان عادلاً لأسباب كأنه عادل لسبب واحد لقلة التناقض فيه؛ وربما كان تعدد الأسباب هو العاصم الذي حمى هذه الصفة أن تتناقض في آثارها، لأنه منحها القوة التي تشدها.
كانت الرحمة من صفاته التي وازنت فيه العدل أحسن موازنة. فما عُهد فيه أنه أحب العدل لغضه من الأقوياء المعتدين، كما كان يحبه لنجدته الضعيف المُعتدى عليه.
إن العرب يشتقون الرحمة من الرحم أو القرابة، وهو اشتقاق عميق المغزى يهدينا إلى نشأة هذه الفضيلة الإنسانية العالية، ومودة عمر بن الخطاب لرحمه وذوي قرباه لا تنحصر دلائلها في رحمته لأخته الشاكية الثائرة. فإن المرأة قد تُرحم لضعفها في موقف شكواها ويأسها ولو كانت بعيدة الآصرة، إنما يدل على مودته لذوي قرباه ذلك الحب الذي كان يضمره لأبيه بعد موته، مع شدته عليه وغلظته في زجره وتأديبه. فكان يطيل الحديث عنه، وينقل أخباره، ويُقسم باسمه إلى أن نُهي عن ذلك.
على أن عمر كان يرحم في أمور يحول فيها النفور الديني دون الرحمة عند كثيرين.
فمن ذلك انه رأى شيخاً ضريراً يسأل على باب، فلما علم أنه يهودي قال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟
قال: أسألك الجزية والحاجة والسن!
فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله، فأعطاه ما يكفيه ساعتها، وأرسل إلى خازن بيت المال يقول: انظر هذا وضرباءه فو الله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم.
إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والفقراء هم المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب.. ووضع عنه الجزية.
وقد فرض عمر لكل مولود لقيط مائة درهم من بيت المال، كما فرض لكل مولود من زوجين، هي رحمة قد يحجبها النفور من الزنى وثمراته في نفوس أناس ينفرون فلا يرحمون.
فنحن إذاً بإزاء صفة كبيرة إلى جانب صفة كبيرة: الرحمة إلى جانب العدل، وكلتاهما من البروز  والوثاقة وعمق القرار بمثابة العنوان الذي يدل على صاحبه، أو بمثابة العنصر الأصيل الذي يلازمه ويلابسه ولا يفارقه في جملة أعماله.
لكل شخصية إنسانية مفتاح صادق يسهل الوصول إليه أو يصعب على حسب اختلاف الشخصيات.
وفي اعتقادنا أن شخصية عمر من أقرب الشخصيات العظيمة مفتاحاً لمن يبحث عنه، فليس فيها باب معضل الفتح وإن اشتملت على أبواب ضخام.
والذي نراه ن "طبيعة الجندي" في صفتها المثلى هي أصدق مفتاح "للشخصية العمرية" في جملة ما يؤثر أو يروى عن هذا الرجل العظيم.
فعمر هو الشجاع، الحازم، الصريح، الخشن، المطيع، الغيور على الشرف، السريع النجدة، المحب للنظام، المؤمن بالواجب والحق.
أرأيته وهو يرعى المراتب فينزل درجة من سلالم المنبر بعد أبي بكر لأن الخليفة الأول أحق منه بالتقديم؟
ثم هناك عمر بن الخطاب الذي عشّر الجنود، أي جعلهم عشرات عشرات، ثم قسمهم إلى كتائب وبنود.
وهناك عمر بن الخطاب الذي لم يدير قط تدبيراً كبيراً أو صغيراً في شؤون الدولة إلا بنظام لا يختل أو على أساس لا يحيد.
كان يوماً في مجلس عمر وزياد بن سمية يتكلم وهو يومئذ شاب. فأحسن كعادته في مجال الخطابة والمشورة. فأُعجب به عمر وهتف به: لله هذا الغلام!
لو كان قرشياً لساق العرب بعصاه.
كان عمر يتفاءل بالأسماء، وينظر في الرؤى والمنامات، ويروى عنه في روايات متواترة أنه أنبئ بموته في منام، وأنه رأى كأن ديكاً ينقره نقرتين، وفسروا له الديك برجل من العجم يطعنه طعنتين.
نهج عمر طريقه في الإسلام كما نهج طريقه إلى الإسلام: كلاهما طريق "عمري" هو أشبه به وهو أقدر عليه، وكلاهما طريق صراحة وقوة لا يطيق اللف والتنطع، ولا يحفل بغير الجد الذي لا عبث فيه.
قال في بعض عظاته: "لا تنظروا إلى صيام أحد ولا إلى صلاته، ولكن انظروا من إذا حدث صدق، وإذا ائتمن أدى، وإذا أشفى – أي هم بالمعصية – ورع".
وكان يعجبه دين الرجل القوي الشجاع الذي ينتصر بدينه في ميدان الحياة، وليس بدين الواهن المهزوم الذي تركته الدنيا فأوهم نفسه أنه هو تاركها.
من تمام العلم بإسلام عمر؛ أن نعلم فضل إسلامه مع من لم يكن من أهل الإسلام، فإن الحق الذي يتبعه الرجل مع أهل دينه وحدهم لحق محدود، يدخل في باب السياسات القومية؛ أكثر من دخوله في باب الفضيلة الإنسانية. وإنما يُصبح جديراً باسم الحق، حين يتبعه الرجل مع أهل دينه ومع الخارجين عليه.
وعمر ولا ريب كان أشد المسلمين في إسلامه.
فلو كان الإسلام ظالماً بطبيعته لمن لم يدخلوا فيه، لكان عمر أشد المسلمين ظلماً لهم وقسوة عليهم. لكنه كان في الواقع أشد المسلمين رعاية لعهدهم مذ كان أشد المسلمين غيرة على دينه وعملاً بأدبه.
كان مسلماً شديداً في إسلامه، فلم تكن شدته في إسلامه خطراً على الناس، بل كانت ضماناً لهم ألا يخافه مسلم ولا ذمي ولا مشرك في غير حدود الكتاب والسنة.
كان يحب ويكره كما يحب الناس ويكرهون، ولكن لا ينفعك عنده أن يحبك ولا يضيرك عنده أن يكرهك إذا وجب الحق ووضح القضاء.
قال يوماً لأبي مريم السلولي قاتل أخيه: والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح!
فقال له أبو مريم: أتمنعني لذلك حقاً؟ قال: لا قال: لا ضير! إنما يأسى على الحب النساء.
وحسبك من إسلام يحمي الرجل من خليفة يبغضه وهو قادر عليه. فذلك المسلم الشديد في دينه، والذي يشتد فيأمنه العدو والصديق.
عمر كان على نحو من الأنحاء مؤسساً لدولة الإسلام قبل ولايته الخلافة بسنين، بل كان مؤسساً لها منذ أسلم، فجهر بدعوة الإسلام وأذانه، وأعزها بهيبته وعنفوانه.
وكان مؤسساً لها يوم بسط يده إلى أبي بكر، فبايعه بالخلافة، وحسم الفتنة.
وقد وضع لقواده دستور الحرب، أو دستور الزحف من الجزيرة العربية إلى تخوم أعدائها، كأحسن ما يضعه رئيس دولة لقواده وأجناده.
وقد كان يقول، ويعني ما يقول، ويعمل بما يقول.

مر عمر في سوق المدينة، فرأى إياساً بن سلمة معترضاً في طريق ضيق فخفقه بالدرة وقال له: "أمط عن الطريق يا ابن سلمة".
ثم دار الحول ولقيه في السوق فسأله: أردت الحج هذا العام؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فأخذ بيده حتى دخل البيت وأعطاه ستمائة درهم وقال له: يا ابن سلمة! استعن بهذه، واعلم أنها من الخفقة التي خفقتك بها عام أول! قال إياس: يا أمير المؤمنين ما ذكرتها حتى ذكرتنيها. فأجابه عمر: أنا والله ما نسيتها.
ماذا يصنع جندي المرور في عصرنا إذا شاء أن يميط عن الطريق ويفض الزحام؟
وماذا تصنع المحاكم في تعويض من أصابه الضرب بغير ضرورة؟
إن جندي المرور ليضرب بالدرة وبما هو أقسى منها، وإن المحاكم لتعوض المضروب بشيء من مال الدولة عن خطأ الجند والموظفين، وعمر قد عوض الرجل من ماله.
إن الأكثرين يحسبون أن الرجل الذي يعجب به الناس لا يعجب هو بأحد، وأن البطل الذي يقدسه عشاق البطولة لا يعشق البطولة في غيره، وأن التطلع إلى الأعلى صفة ينطبع عليها الصغار ليرتفعوا بعض الارتفاع ويحسنوا الخدمة والعون للكبار.
لكن البطل الذي ندرسه هذه الدراسة ينقض ذلك الحسبان، لأنه بطل يروع ويعرف روعة البطولة.
ويستحق الإعجاب غاية استحقاقه، ثم يُخيّل إليك من فرط ولائه لمن يفوقونه أنه خُلق للإعجاب بغيره، ولم يُخلق ليكون هو موضع الإعجاب.
فارق عمر الدنيا والمختلفون فيه ينقصون، والمتفقون على حمد يزيدون، ثم هم يزيدون في حمدهم إياه وثنائهم عليه.
بكى علي يوم موته، فسئل في بكائه فقال: "أبكي على موت عمر، إن موت عمر ثلمة في الإسلام لا ترتق إلى يوم القيامة".
وقال عمرو بن العاص وهو يحدث نفسه: "لله درء ابن حنتمة "اسم أم عمر" أي امرئ كان".
وصفته امرأة خطبها فرفضته وصفاً، لم نسمع فيما قيل عن إيمانه بالله أصدق منه ولا أوجز وأوفى، فقالت أم أبان بنت عتبة بن ربيعة: "إنه رجل أذهله أمر آخرته عن أمر دنياه، كأنه ينظر إلى ربه بعينه". فهو في الحق أصدق وصف لإيمان هذا الرجل المتفرد بإيمانه كما تفرد بكثير من شؤونه. إنه تجاوز حد الإيمان إلى حد الرؤية والعيان.


الأربعاء، 7 مايو 2014

كتاب: سيرة خليفة قادم

كتاب: سيرة خليفة قادم، "قراءة عقائدية في بيان الولادة"
للمؤلف: د. أحمد خيري العمري
دار النشر: قيام القرآن لأمة قائمة
الطبعة: الأولى 2013
الكتاب يبحث في موضوع "الاستخلاف". موضوع وظيفتنا بوصفنا خلفاء في الأرض.
وهو موضوع "مفتاحي"، بمعنى أنه يُشكل "مفتاحاً" لأساسات مهمة في فهم النص الديني، وفهم وظيفته، وبالتالي فهم المطلوب منا.
كما أن البحث في موضوع الاستخلاف قد أدى إلى فتح "مفاهيم مفتاحية أخرى" لا تقل أهمية ومركزية عن الاستخلاف، كمفهوم "الإيمان والعمل الصالح" وارتباطهما الوثيق قرآنياً، وكذلك مفاهيم "الدنيا" القضاء والقدر، التقوى، وأولي الأمر، وكلها مفاهيم ليست فاعلة في حياتنا اليومية فحسب، ولا تملك تأثيراً مباشراً على ما نتخذه من قرارات في مفترقات الطرق الموجودة في حياتنا فحسب، بل هي تشكل عناصر أساسية في معادلة الاستخلاف، والخلل الذي أصابها أصاب معادلة الاستخلاف في مقتل.

الحديث عن الاستخلاف والخلافة، يرتبط مباشرة بدورنا المنشود في هذه الحياة. وهو دور أؤمن شخصياً أنه أبعد بكثير عن مجرد "رفع معدلات التنمية"، أو  "مضاهاة بقية الأمم التي سبقتنا.
هذا الدور عندما نؤمن به حقاً، يكون جزء منا، من تلافيف أدمغتنا، يكون كالوشم على عقولنا ونمط تفكيرنا، على رؤيتنا للأشياء، على تعاملنا مع الأشياء، من أبسطها، كرمي ورقة في الشارع، إلى أضخمها، كالتحديات الكبرى التي تواجه الأوطان والأمم، مروراً بتربية الأبناء، إلى سبر أغوار العلوم، إلى نشر الوعي..
إن البحث عن سؤال صحيح لطرحه قد يكون أهم بكثير من إيجاد الجواب الصحيح لأسئلة غير مهمة.
لذلك فمن المهم جداً، أن نطرح السؤال الصحيح أولاً، من أجل الوصول لاحقاً إلى الجواب الصحيح.

لماذا نحن هنا، على هذا الكوكب؟
سؤال لماذا نحن هنا؟ يرتبط بوجودنا المباشر على سطح الأرض، وبالتالي يرتبط بما نفعله على هذه الأرض، ولهذه الأرض، إنه سؤال وجودي تماماً؛ لأنه يرتبط بماهية وجودك، بكل ما هو أنت، بكل ما أنت من أجله.
الهدف من وجودنا، هو قضية "عقائدية" بطريقة ما، أي أنه يدخل في صميم عقيدتنا وإيماننا، فلفظ العقيدة الذي اشتق من الفعل "عقد" تنطبق تماماً على إيماننا بما خُلقنا من أجله، الذي هو "عقدة الأمر"، فحياتنا كلها على كوكب الأرض تقوم على ما سنفعله فيها، وما سنفعله فيها يعتمد بشكل أو بآخر على إيماننا بوظيفتنا فيها.
فالأمر ليس قضية نسبية، وليس مجرد وجهة نظر. ليس رأياً قد يحتمل الصواب والخطأ. لا الأمر يتعلق بالعقيدة، والعقيدة ليست رأياً عابراً في قضية عابرة.

عندما تنزل القرآن تباعاً كان يقوم بعملية إعادة تشكيل للإنسان.
لم يكن الإنسان الذي نشأ في الجاهلية مثل ورقة بيضاء.
كان هناك كثير من المفاهيم التي شكلت هذا الإنسان الجاهلي، ليس فقط أوثان الجاهلية وأصنامها، بل أيضاً كثير من المفاهيم المرتبطة بهذه الأوثان، عادات، تقاليد، نمط تفكير...الخ
كانت شهادة التوحيد "لا إله إلا الله" تعني ضمن ما تعنيه، نسفاً لذلك الإنسان القديم الذي نشأ وتكون في الجاهلية.
وتعني أيضاً إعادة تكوينه من جديد على مفاهيم جديدة ورؤية جديدة للعالم ولنفسه ولدوره في هذا العالم.
كل لفظ استخدمه القرآن الكريم كان له معنى في لسان العرب، ولكنه فُهم من جديد في سياق مختلف عندما طُرح في القرآن.
كلمة "خلف" وربما مشتقاتها كانت معروفة عند العرب، وتعني شيئاً مرتبطاً بـ "جعل أحدهم مكانه".
ثم جاء القرآن، فصار كل شيء له معنى مختلف، معنى أكثر توهجاً.
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله...)
الحكم، الحق، الابتعاد عن الأهواء.
هذه المفاهيم الثلاثة، اثنان منها إيجابيان يؤديان إلى الفتح، والثالث سلبي يُستخدم للإغلاق، جاء ذكرها نتيجة لكون داود خليفة.
أي أنها جزء من متطلبات الخلافة، ومن استحقاقاتها.
الحكم هنا في سياق الاستخلاف لا يتحدث عن أي حكم، إنه يتحدث عن "حكم" يكون هو الحكم الصواب، حكم يكون جزء من فصل الخطاب.
الحكم بالحق، هو الحكم الذي أمر الله عبد داود أن يحكم به، وهذا يقودنا إلى مفهوم الحق، فالحق مفتاح من ثلاثة مفاتيح لا يمكن فهم مفهوم الخلافة إلا بها جميعاً.
(واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا...)
إنه التذكير إذن، وهو تذكير يعني ضمناً، ان الحقيقة "المذكر" بها هي حقيقة منسية، تحتاج إلى تذكير.
كيف ينسى الإنسان معلومة مهمة جداً؟
ما لآلية التي تجعله ينسى شيئاً مهماً "مثل نسيانه أنه الخليفة"؟
ما كان الإنسان سينسى "ما خلق من أجله، وظيفته الأصلية" لولا أنه اخترع عشرات الوظائف الصغيرة التي أثقل بها ذاكرته ووعيه، حتى غطت على "ذكرى الوظيفة الأصلية".


سورة الأنعام: نعمة أن تكشف أنك إنسان.
ليست سورة الأنعام أول سورة ذكرت فيها كلمة خليفة أو لفظ مشتق من الفعل خلف، لكن الإشارة إلى "الخلافة" في خاتمتها تجعلها في موضع مهم، إذ إن كل ما في السورة، ينتهي ليصب في خاتمتها.
لآية الخاتمة في السورة هي:
(وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب)
وفيها 164 آية تصب كلها في هذه الآية، في كونه تعالى جعلنا (خلائف الأرض)
كل ما جاء في سورة الأنعام مما يعد اليوم جزء من عقيدتنا في الله، يصب في تلك الآية الخاتمة التي تقول لنا: إنه سبحانه جعلنا (خلائف الأرض)
إنها عقيدة أيضاً. مثلما أنه كتب على نفسه الرحمة.
ومثلما أنه خلق السماوات والأرض، وأنه خلقنا من نفس واحدة، وأنه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار.
كلها عقائد لا جدال فيها. كلها مما نؤمن به، وإيماننا به يجعلنا مسلمين.
كذلك أنه جعلنا "خلائف" هذه أيضاً عقيدة.
كل ما في الأمر "أنهم لم يدرجوها في كتب العقائد التي درسونا إياها. لكنها بقيت في القرآن، وهذا هو المهم.
صراط الاستخلاف: من العقل نبدأ
(قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم...) صورة للآية
الإيمان الواعي الذي يعد "العقل" شريكاً في الوصول، لا عقبة يجب تجاهلها أو الالتفاف حولها كما في أغلب الديانات المعروفة بصيغتها الحالية، هو الذي يمكن أن يوصل إلى الاستخلاف.
الآيات التي تتحدث عن "صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي"، تتحدث بصيغة فريدة شخصية وحميمية جداً.
تتحدث عن "مشروع حياة".
ابتدأ الأمر بالصلاة، فهي الشكل الذي يضم المعنى، ودون الشكل لن يكون هناك معنى، مهما حاول المنفلتون إيهامنا بأن المهم هو ما في القلب، وأن المهم هو ما نفعله، بغض النظر عن صلاتنا أو عدم صلاتنا.
والنسك كل تضحية تقدمها في حياتك على مذبح التقرب إلى الله عز وجل، بعضهم يقدم كل وقته، كل مواهبه، كل جهده ليكون خالصاً لله.
والمحيا غير الحياة، محياي ما أحيا من أجله، ما يجعل لحياتي معنى.
ومما تي ما أموت لأجله، ما أتوج به حياتي عندما لا يكون هناك حل آخر، فأنهيها بما يصب في قضيتي، عندما يكون موتي أكثر جدوى من حياتي.
هذا هو ملخص الحياة، عندما يكون في حياتك "قضية". والحياة في نهاية الأمر "قضية".

في سورة البقرة: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)
لم يكن هناك قبل الآية الثلاثين من سورة البقرة أي نص ديني لأي دين كتابي سابق ينص على أن الإنسان هو "خليفة" لله في الأرض.
الإسلام عبر القرآن، هو أول من صرّح بذلك.
أن يكون الدين هو المحرك الأساسي لأمة ما، كان يستلزم أن يحتوي هذا الدين على عوامل إيجابية "قائدة" بالذات في رؤية الإنسان لنفسه ولدوره في الحياة.
إن الاستخلاف نفسه عبادة:
لقد امتزج المعنى من (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) مع معنى (إني جاعل في الأرض خليفة) وصار معنى العبادة مرتبطاً بالاستخلاف في الأرض، كما لو أن عبادة الاستخلاف صارت جزءاً أساسياً من عبادات هذا الإنسان الجديد.
لم تعد العبادة محض شعائر وطقوس تؤدى لله عز وجل، بل صارت عملاً يؤدى لهدف، ويقصد به خلافة لله على أرضه.
إن السياق في هذه الآية يجعل "الاستخلاف" المنصب الوظيفي الذي وكل للنوع الإنساني،

كيف فهم الجيل الأول، جيل الصحابة، الجيل الذي أعاد بناء العالم، كيف فهم هذه الآية؟
(إني جاعل في الأرض خليفة)
ذهب ابن عباس وابن مسعود في تأويل الآية، حيث نقل عنهما الطبري: إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بين خلقي، وذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه.
الاستخلاف فرض عين لا فرض كفاية: الآية 30في سورة البقرة ألغت ذلك الفارق الوهمي بين فرض العين وفرض الكفاية، صار العبء الإنساني عبأ ملقى على كل فرد بعينه، لم يعد الخليفة نبياً أو رسولاً أو ملكاً أو قائداً بالضرورة، بل صار الخليفة كل فرد، صار النوع الإنساني، صار لكلٍ نصيبه من استخلاف لن تتحقق نتائجه النهائية إلا بعد أن يمر بهذه المرحلة التي يكون فيها كل فرد هو الخليفة شخصياً.

(والعمل الصالح يرفعه)
في لسان العرب صلح ضد فسد، وفسد ضد صلح.
أي أن معنى الصلاح والفساد هنا ليس ثابتاً، بل لا يعرف إلا بحالة معاكسة، حالة مضادة.
وهذا يجعل مفهوم كل من الفساد والصلاح نسبياً ومتغيراً، فما يكون صالحاً في وقت ما، قد يكون فاسداً لاحقاً في مرحلة أخرى.
فلماذا لا نفهمه في العمل الصالح؟
لماذا نستغرب عدم وجود قالب محدد وواضح يؤطر العمل الصالح، بينما من الطبيعي ألا يكون هناك شيء كهذا.
العمل الصالح أعلى وأوسع من كل القوالب المحددة. إنه الشرط الثاني الذي يحقق الاستخلاف؛ يحقق ما خُلقنا لأجله.
العمل الصالح صلاحيته مرهونة دوماً بواقع متغير، لذا يجب أن تراعى الصلاحية هذه وتتجاوز إمكانية التقادم عبر تقديم آليات ووسائل جديدة لهذا العمل الصالح لكي يكون صالحاً باستمرار.
العمل الصالح: العمل بمرتبة القبلة: كان معنى آخر يمكن استمداده من لسان العرب، يفتح لنا آفاقاً تقربنا من المعنى الحقيقي للعمل الصالح.
ماذا يقول لسان العرب عن هذا؟
يقول ببساطة ما نسيناه تماماً، معلومة جديدة بالنسبة للكثيرين وأنا منهم. يقول: إن "صالح" هو اسم علم من أسماء مكة!
هذا المعنى الأخير يربط الصلاح وكل ما يرتبط به من معانٍ بقضية "العمران" و"البناء الاجتماعي" بقضية البناء الحضاري.
عندما ترتبط كلمة "صالح" بهذه المدينة تحديداً، فإن تعبير "العمل الصالح" سيرتبط بمكة المعنى، مكة الرمز الحضاري، مكة المدينة التي يجب أن تتجه إليها حضارتنا.
وهذا سيجعل "العمل الصالح" مرتبطاً فوراً بمعنى العمل الذي يصب في حضارة "لاإله إلا الله".

وكل عمل لا يصب في ذلك، في بناء وعمران وإعمار مجتمع لا إله إلا الله، لن يكون ضمن العمل الصالح.

الخميس، 1 مايو 2014

كتاب تعلومهم "نظرة في تعليم الدول العشر الأوائل في مجال التعليم عبر تعليمهم الأساسي"

كتاب: تعلومهم " نظرة في تعليم الدول العشر الأوائل في مجال التعليم عبر تعليمهم الأساسي"
المؤلف: عزام الدخيل.
دار النشر: الدار العربية للعلوم ناشرون
الطبعة: الأولى 2014
عدد الصفحات: (383)
إن دراسة أي تجربة تعليمية أو تربوية ما بغية تطبيقها الحرفي أو استنساخها إنما هو ضرب من العبث التنظيري والخطأ الفكري والمنهجي، إنما تدرس التجارب التعليمية والتربوية بهدف تحفيز التساؤل وإثارة الانتباه لتوليد جذوة الانطلاقة الذاتية بما يتواءم مع موروثنا القيمي والحضاري والثقافي ويتناسب معه.. لذا كان هذا الكتاب.
الكتاب تناول التجربة التعليمية في كلٍ من: فنلندا، كوريا الجنوبية، هونج كونج، اليابان، سنغافورة، المملكة المتحدة، هولندا، نيوزيلندا، سويسرا، كندا.
من ملامح التجربة التعليمية في فنلندا:
شهدت فنلندا على مدار العقد المنصرم تطورات هائلة في مجال التربية والتعليم، لا سيما في القراءة والرياضيات والعلوم، إذ تعد فنلندا بلداً نموذجياً في نظامها التعليمي.
إن النشء الفنلندي أفضل القُرّاء بين الطلبة على الاطلاق.
وتعد فنلندا من النماذج الناجحة في نظام التعليم نظراً لنتائجها المميزة في الاختبارات الدولية في مجال التحصيل العلمي، بالإضافة إلى طبيعة المساواة العالية فيها؛ إذ لا توجد اختلافات كبيرة بين مستوى المدارس ومستويات طلابها.
انعكس تطور التعليم في فنلندا على تطورها وتقدمها في المجالات كافة لا سيما الاقتصادية منها. ففنلندا اليوم تحتل المرتبة الثالثة من حيث القدرة التنافسية الاقتصادية على الصعيد العالمي.
من مزايا التعليم في فنلندا: التعليم لمواجهة الحياة، والمساواة، والثقة.
يقول كاري لوهيفيوري مدير مدرسة: "إننا نعمل يومياً على إعداد الأطفال للانخراط في هذه الحياة"، "هذا ما نفعله يومياً: إعداد الأطفال لمواجهة الحياة".
كما ينص أحد المبادئ الرئيسة للتعليم في فنلندا على المساواة في فرص التدريب والتعليم عالي الجودة بغض النظر عن العرق أو العمر أو المستوى المادي أو مكان الإقامة.
ويُعزى جزء كبير من التطور الهائل الذي شهدته فنلندا في مجال التربية والتعليم إلى الثقة التي منحت للأساتذة لإجراء كل ما يلزم في سبيل تحسين حياة الجيل الناشئ.
كما تحرص المدارس في فنلندا على تعليم أطفال المهاجرين لغتهم الأم، تقول وزيرة التعليم الفنلندية: "إننا نؤمن بأهمية تعلم اللغة الأم، لذا نحاول تعليم المهاجرين كلهم لغاتهم الأم".
ويوجد حالياً في فنلندا مدارس تعلم بالعربية والصومالية والروسية والفيتنامية والإستونية، إما كلغة وحيدة للتعلم، او كجزء من مدرسة ثنائية اللغة.
من ملامح التجربة التعليمية في كوريا الجنوبية:
على الرغم من وصول تعداد كوريا الجنوبية السكاني إلى نحو 50 مليون نسمة، يعيشون في مساحة جغرافية صغيرة، وموارد طبيعية متواضعة، وفرص عمل محدودة؛ إلا أنها تتمتع بأداء عالي المستوى لطلابها ضمن التصنيف العالمي.
يُعد نظام التعليم في كوريا الجنوبية من الحضانة حتى نهاية المرحلة الثانوية أحد أفضل النظم التربوية والتعلمية في العالم.
مراحل التعليم في كوريا الجنوبية: ست سنوات في المرحلة الابتدائية، وثلاث في المتوسطة وثلاث في الثانوية.
في المرحلة الابتدائية يضع المعلمون الطلاب في مجموعات صغيرة، ومن ثم يعطون بعض المشاكلات التي يتمكنون من حلها معاً، بدلاً من الاعتماد على تدريس الصف بأكمله.
المرحلة الإعدادية "المتوسطة": يجري فيها فرز الطلاب بحسب قدراتهم العلمية. إلا أن هذا الأجراء يكاد يتلاشى مع الأنظمة الحديثة في التعليم التي أثبتت فشل هذا الأجراء لانعكاساته السلبية على الطلاب.
المرحلة الثانوية: لا يزال التعليم في المرحلة الثانوية في كوريا الجنوبية تقليدياً إلى حد ما، إذ يهتم المعلمون على نحو كبير بتهيئة الطلاب لامتحان القبول الجامعي.
التعليم الخصوصي "الدروس الخصوصية"
يرجع الفضل في نجاح أطفال كوريا الجنوبية غالباً إلى الاستثمار الضخم للآباء في صفوف ما بعد المدرسة وغيرها من أشكال التدريس الخاص أو الإضافي.
وينفق الآباء 25% من دخلهم على تعليم أولادهم.
وقد سعت الحكومة إلى تنفيذ سياسات متعددة لتخفيض ما يجري إنفاقه من تكاليف على التعليم الخاص، عبر تنويع المناهج وتنمية التعليم الذاتي وتنمية مهارات المعلم.
الطلاب في كوريا الجنوبية:
الطلب على التعليم في كوريا الجنوبية أقوى مما هو عليه في البلاد الأخرى. والضغط على الطلاب من أجل الأداء الجيد كبير. كما أن عدد الساعات التي يقضيها الطلاب وهم يدرسون كل يوم وكل أسبوع أطول مما هو عليه في أي دولة أخرى.
ويقال أن الطلاب الذين لا يحققون توقعات آبائهم في الدراسة يعاقبون بشدة في الغالب.
وقد أظهر مسح جرى إجراؤه أن ثلاثة أرباع طلاب المدارس المتوسطة والثانوية يفكرون في الهروب من البيت أو الانتحار بسبب الضغوط التي عليهم لتحقيق مستويات أداء عالية في المدرسة.
من ملامح التجربة التعليمية في هونج كونج:
كانت هونج كونج مستعمرة بريطانية حتى عام 1997م.
وقد اشتهرت في ميدان التعليم بالنتائج التي يحققها طلابها في الاختبارات الدولية. وكان إنجازها رائعاً باعتبار أن هونج كونج أعادت بناء نظامها التعليمي على نحو جوهري ابتداءً من عام 1997م.
أصدرت مؤسسة تطوير المناهج الدراسية في هونج كونج عام 2002 وثيقة إصلاح مهمة عنوانها: "التعلم من أجل التعلم" ويتضمن عنوان الوثيقة رسالتين أساسيتين:
1.      تغيير التركيز من التعليم إلى التعلم.
2.      التشديد على عملية التعلم بدلاً من حفظ الحقائق عن ظهر قلب.
بالرغم من أن هونج كونج لا تقوم بتصنيف المدارس حسب درجاتها إلا أن المدارس تكتسب مصداقيتها عبر نتائج تقويمها العام، التي تتكون من نتائج أداء الطلاب بناء على مجموعة من الاختبارات الوطنية أو المدرسية. حيث يجري نشر هذه النتائج عادة في وسائل الإعلام. كما تنشر وسائل الإعلام إحصائيات تتعلق بأداء المدارس. وتنشر الصحف كل سنة مرات عدة إحصائيات ومعلومات عن عدد المعلمين الذين لم يحققوا شروط المهارة اللغوية.
المعلمون في هونج كونج:
أصبح المعلمون في هونج كونج من الأهمية بمكان حتى غدوا أقرب إلى نجوم الشهرة؛ إذ كثيراً ما تجد لهم صوراً كبيرة في لوحات الإعلانات التي تلوح في الأفق على الطرق السريعة.
ولدى معظم مشاهير معلمي المدينة أشرطة فيديو موسيقية خاصة، وصفحات معجبين على مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. ومنتجات تحوي ملفات وملحوظات لاصقة. وأفادت وسائل إعلام محلية في نشراتها الإخبارية أن باستطاعة عدد من المعلمين جني أكثر من 10 مليون دولار.
من التحديات التي تواجه التعليم في هونج كونج:
بالرغم من الإصلاحات الكبيرة والعديدة في نظام التعليم في هونج كونج لكن يبقى التحدي الذي يصاحب هذا النهج هو التباين الكبير بين المدارس في النوعية. إذ إن الأداء الإجمالي بمعايير برنامج تقويم الطالب الدولي هو أداء عالٍ، إلا أن أداء بعض المدارس في هونج كونج متدن.
من ملامح التجربة التعليمية في سنغافورة:
غلب على نظام التعليم في سنغافورة أثناء حقبة الاستعمار درجة عالية من النخبوية والفصل بين الجماعات مختلفة الأعراق والدين؛ فسعى لي كوان إلى استبداله بنظام تعليمي شامل تموله الحكومة، وتنال فيه الموهبة والعمل الجاد الحظوة والمكانة.
إصلاح نظام التعليم في سنغافورة:
من الأسباب التي مكنت سنغافورة من تحقيق النجاح الباهر في بناء منظومة تعليمية من الطراز العالمي انطلاقاً من أساس هش في زمن قصير:
1.      اختار لي كوان العديد من الشخصيات الأكفاء في سنغافورة للعمل في الحكومة، وبذلك توافر بين يديه فريق عمل ناجح من الدرجة الأولى لصنع القرارات وتنفيذها.
2.      حرص لي كوان على إطلاع الحكومة على طيف واسع من التجارب العالمية الرائدة والاستفادة منها قبل الشروع في رسم سياسات حكومته.
3.      حرص لي كوان على أن تولي بلاده درجة مماثلة من الرعاية الخاصة لتطوير السياسات الحكيمة وتنفيذها بدقة وتأنٍ في آنٍ معاً.
التعليم المهني في سنغافورة:
على الرغم من أن سنغافورة باتت تفتخر بكونها صاحبة أحد أقوى الأنظمة المدرسية في العالم عند إجراء المقارنات المتعلقة بالتحصيل الدراسي على المستوى الدولي، فإن هذا لم يحدث على حساب التعليم المهني والتقني، الذي يشكل مجالاً آخر لتفوقها. فقد دعت سنغافورة عدداً من الدول الصناعية الأكثر تقدماً في العالم لتأسيس مدارس متخصصة في التدريب الصناعي للمرحلة الثانوية العليا في ذلك البلد على نفقة حكوماتها الخاصة.
وقد تأسس معهد التعليم التقني من قبل الحكومة السنغافورية في عام 1992م، وكان الهدف منه تغيير التعليم المهني جذرياً. وأن يكون مثالاً عالمياً كيف أن المهارات المهنية والتكنولوجيا يمكن أن تترجم إلى اقتصاد قائم على المعرفة. وأعيدت صياغة وسم التعليم المهني بأنه تعليم "شمروا عن السواعد، أعملوا عقولكم، ولتخفق القلوب"، لمحاربة التصور السائد عند الناس بأن هذه المدارس كانت للمخفقين.

من ملامح التجربة التعليمية في هولندا:
يتميز الهولنديون بصفات خاصة تميزهم عن غيرهم، منها: أنهم اكتشفوا في وقت مبكر أن الإنجازات الهائلة لا يمكن أن تأتي إلا نتيجة العمل الجماعي الوثيق. مما أنتج عقلية جماعية "كلنا في قارب واحد".
والسمة الأخرى هي الإيمان بجدوى الديموقراطية، وترك الأفراد والعائلات يقررون بأنفسهم الأمور التي تتعامل معها الحكومات في الدول الأخرى.
أهداف التعليم في هولندا:
أهداف المرحلة الابتدائية: يجب أن يبدأ أي بحث في مصادر نجاح هولندا في التعليم الابتدائي والثانوي بطريقة التعامل مع الأطفال الصغار. فقد وجد مسح قامت به منظمة اليونيسيف عام 2009 حول رفاه الأطفال في أغنى البلدان أن هولندا حلت المرتبة الأولى في رفاه الأطفال وسعادتهم.
إذ تقدم مستوى عالٍ جداً من الخدمات والدعم المالي للعائلات التي لديها أطفال. ويبدأ ذلك بدفع مبالغ مالية كبيرة لها. كما أن التأمين الصحي المجاني يشمل رعاية الحوامل، وخدمات الولادة المجانية، وتقديم خمس ساعات يومية لمساعدة الأم الجديدة في المنزل. كما تقدم هولندا مساعدات كبيرة للأسر الفقيرة والأقليات. ويجري دمج هذا النظام بسلاسة مع نظام التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة.
كما تتوافر للأطفال الصغار الفرصة والمساحة الكافية للعب والنمو ضمن مرافق رعاية الطفولة وجماعات اللعب.
يتسنى للآباء اختيار طريقة تعليم أطفالهم في هولندا. إذ تقسم المدارس في نظام التعليم الهولندي إلى ثلاثة أنماط رئيسة: المدارس الحكومية، والمدارس المستقلة الكاثوليكية أو البروتستانتية، والمدارس المستقلة ذات التوجه غير الديني.
وزارة التعليم في هولندا:
تُعد وزارة التعليم في هولندا المسؤول عن وضع المنهج الدراسي الوطني، وعن وضع أهداف التحصيل للطلاب فيما يتعلق بهذا المنهج. وتعود للمدارس كيفية القيام بتنفيذ المنهج ومساعدة الطلاب في تحقيق الأهداف المرجوة.
وللتأكد من ان إدارة المدرسة وفريقها التعليمي يتصرفون بصورة مسؤولة، أوجد الهولنديون هيئة للتفتيش مهمتها زيارة المدارس وفق جدول مواعيد منتظم، وإعداد التقارير للوزارة وللعامة حول ما إذا كانت المدارس تنفذ المنهج المقرر وتحقق الأهداف وتصرف الأموال حسب القواعد. ومن الجدير ذكره أنه لا يمكن لهيئة التفتيش ولا للوزارة إغلاق مدرسة ما، لكن يمكنهم إيقاف التمويل عنها، وهذا التهديد كافٍ بحد ذاته لجعل المدارس تهتم بتقارير الهيئة.