السبت، 31 أغسطس 2013

كتاب استرداد عمر من السيرة إلى المسيرة






 

استرداد عمر، من السيرة إلى المسيرة، د. أحمد خيري العمري

دار النشر: القرآن من أجل أمة قائمة، المركز الطبي الدولي.

 

آن لنا أن نُخرج عمر بن الخطاب من خانة كتب السيرة على رفوف المكتبة إلى مسيرتنا اليومية إلى حياتنا، آن لنا أن نُخرج فهم عمر بن الخطاب للقرآن والسنة النبوية من كتب التاريخ إلى التطبيق العملي.. نحتاج إلى فهم

عمر تحديداً في هذه المرحلة، كي نكون ما يجب أن نكونه.

هذا ليس كتاباً في السيرة أو التاريخ إنه كتاب في المسيرة نحو المستقبل.

 

سيرة عمر، هي بطريقة ما قصة الحضارة وتحولاتها، لو قرأنا سيرته لوجدنا أنفسنا نقرأ خلاصة ما كتبه ابن خلدون وول ديرانت..

 

لابد أن تكون هناك حكمة في أن تكون الحضارة قد ارتفع بناؤها على يدي عمر، وليس على يدي الرسول عليه الصلاة والسلام.. نعم هناك حكمة أكيدة..

لو أن الحضارة ارتفعت على يديه عليه الصلاة والسلام وبوجوده الشخصي لكنا تصورنا جميعاً أنها أشبه بالمعجزة، لأنها ارتبطت به، وبالتالي لا يمكن لنا أن نواصل بناءها أو إعادة بنائها أو استلهامها.

 

عمر قبل إسلامه، كان مؤمناً للحد الأقصى بما آمن به آباؤه، لم يكن من أثرياء مكة الذين خافوا على تجارتهم - مثلا - من أن تخسر بسبب الدين الجديد الذي سيزيح أوثان العرب، كان عداؤه للإسلام نابعاً من موقف، كان مسألة مبدأ، جعله محوراً لحياته..

 

كان عمر يحمل صفة الإيمان بالقضية حتى النخاع، ولقد ميزها الرسول عليه الصلاة والسلام فيه، وعرف أي عز للإسلام سيكون بعمر..

إنني أزعم أن هذه الصفة بالذات صفة الثبات على المبدأ، كانت سبباً في تحولات عمر في مخاضه الجليل.

 

مر عمر أثناء فترة تردده وحيرته بمفترقات طرق حادة، لم يمر عليها بالخوض مع الخائضين، بل مر بها بصخب، كانت شدته وقسوته على أتباع الدين الجديد تدل على شدة تمسكه بخياره الخاطئ، وربما تعكس أيضاً حيرته وشكه في صواب خياره.

ماذا قالت سورة طه لعمر؟

(ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)، وكان الشقاء رفيقه منذ أن فارقته طمأنينة الثبات، وربما قبل ذلك.

 

تركت فيه الآيات الكريمة أكثر بكثير من مجرد الانفعال العاطفي القوي، تركت فيه ما سيحدد مساره في صنع الحضارة وما سيحدد علاقته مع التجارب الحضارية الأخرى ورؤيته للعالم.

كل ولادة تحدث عبرالقرآن  يمكنها أن تحدث ذلك الأثر في مولودها.

 

منذ اللحظة الأولى لإسلامه قرر عمر أن يُحدث فرقاً، أن يُحدث عزاً، أن يجهر بالإسلام، بعدما كان سراً يُخفيه أصحابه..

انطلق عمر ليجهر بالشهادة في شوارع مكة ومجالسها. كان عمر بهذا هو مشعل أول ربيع عربي!

 

لكنه كان ربيعاً يتجاوز أمر العرب إلى الإنسانية جمعاء، وإن اتخذ من مكة وشوارعها موقعاً.


قريش تزلزلت بإسلام عمر، أدركت أن الأمر قد بدأ يخرج عن السيطرة، وصارت تبحث عن وسيلة لاحتواء الدين الجديد للتعايش معه..

أغلب المهاجرين هاجروا سراً، لكن عمر لم يحتمل ذلك.. لم يشأ أن يعتقد أحد من مشركي مكة أنه يهرد منهم سراً، ما كان ليفعلها وهو كافر، ما كان ليرضاها على نفسه وهو كافر.. أفيرضاها الآن وقد زاده الإسلام عزة ومنعة وقوة؟

كان عقل عمر الذي تشبع بآيات القرآن وأحاديثه عليه الصلاة والسلام يعمل طيلة الوقت في تحليل سلوكيات من حوله ورصدهم لا لمراقبتهم، ولكن للحذر على الجبهة الداخلية من مخاطرهم  وشرورهم، في مرتين قال عمر جملة: "لأضربن عنق هذا المنافق"

مستأذناً الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يقتل من تأكد لعمر نفاقه.

عقل عمر بن الخطاب تعامل مع القرآن، كما لو كان "نظاماً للتشغيل" أعاد برمجة عقله. بل قام بمسح كل شيء سابق للقرآن، وقام بتنصيب القرآن نظاماً واحداً للتشغيل، وحذف كل ما يمكن أن يتعارض مع نظام التشغيل هذا أو يشوش عليه.

يذهب عمر ليقول شيئاً يعتقد أنه الصواب، وقد يكون رأي عمر مخالفاً لما يراه عليه الصلاة والسلام، أو ما يراه بقية الصحابة ثم يأتي خبر السماء بوحي مُنزل بآيات قرآنية صريحة يوافق فيها رأي عمر الذي ربما كان يبدو بعيداً عن الأخذ به لحظة قاله.

أن الموافقات العمرية، وهي أمر مفروغ منه من ناحية الصحة، تُظهر لنا أن العقل البشري عندما يلتزم بنظام تشغيل محدد يمكن له أن يُبدع إلى أقصى حدود الإبداع.

عمر لم ينس الموت يوماً، ولم يتجاهله أو يؤجل مواجهته، لم ينس موته هو، بل كان حاضراً معه في كل عمله، لكنه نسي أن الموت قد يأتي لأحبائه قبل أن يأتيه هو.

بالنسبة لعمر، كان الوحي النازل على محمد هو محور حياته، به يرى العالم، به يتفاعل، ومن خلاله يتفاعل مع كل ما حوله هكذا كان يتلقف الوحي كما يتنفس أي منا الهواء، ولم يكن محمد عليه الصلاة والسلام مجرد معبر لهذا الوحي، بل كان أيضاً يمثل شخصية إنسانية تطبق هذا الوحي وتوضحه، كان يمثل امتدادا بشريا للوحي فهل يعقل أن يأتي في باله أن ذلك كله ممكن أن ينتهي.

العلاقة بين أبي بكر وعمر كانت قائمة على التنافس في الخير الذي تحول مع الوقت ليصير تكاملاً نادراً. نموذجاً إيجابيا لما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين شخصيتين قياديتين فذتين، تمتلك من الفضائل الشخصية والصفات القيادية ما يؤهلها للتفرد.

لكنهما معاً - أبي بكر وعمر - يصيران أفضل، أكمل.. مما لو كان كل منهما مُنفرداً..

اتضح هذا الموقف تماماً في وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، رباطة جأش أبي بكر أعادت عمر إلى الواقع، أخرجته من الصدمة وحسم عمر، فصل خطابه عبر بأمر الخلافة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى بر الأمان..

لكل منهما فضله ومكانته، لكن هناك غير السبق شيء ما في أبي بكر الصديق جعله يكون الأنسب ليكون "الخليفة الأول".

منجزات أبي بكر في خلافته وقبلها مهمة حتماً، وليس هنا مجال تعدادها، لكن علينا أن نزيدها واحدة، لا تقل أبداً عن سواها إن لم تفقها.. إنها توليته الخلافة لعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - من بعده.

الساسة يجمعون الناس من حولهم من أجل أصواتٍ في موسم انتخابي أو بعص التهليل والدعم، أو للوجاهة، لكن بناة النهضة يصنعون الإنسان أولاً.. يصنعونه أولاً بصدقهم معه.

كان عمر قد تجاوز في النفير العام موضوع الترغيب والإقناع، ووصل إلى حد التجنيد الإلزامي (وهو أول من شرّع ذلك في الدولة الإسلامية) وهنا قال عمر قولته الشهيرة: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب.. هل كان للعرب ملوك! لا قطعاً لم يكن للعرب ملوك، لكنه كان يقصد هذا الإنسان الجديد الذي ولد في مل مسلم، الإنسان الممتلئ عزة وقوة كما لو كان ملكا متوجا على عرشه.

ما ترك الحق لعمر صاحباً مرحلياً، لكنه في المحصلة النهائية: جعله الأكثر تأثيراً، وجعل الناس تحبه عبر العصور ربما أكثر مما فعلت مع أي خليفة أو حاكم آخر.. وربما بفارقٍ كبير. وربما لو أنه حرص على أن يحبه الناس أكثر من حرصه على الحق - الذي ما ترك له صاحباً - لما حدث ذلك .. لما كان عُمر!

كان عمر متابعاً دقيقاً لا لما يدور فحسب بل لما لم يحدث بعد، نعرف مقدرته الفذة على توقع الأزمة قبل حدوثها، ورغبته في السير للعراق قبل توليته سعداً لذا فقد حرص على أن يكتب له سعد كتباً مفصلة كل يوم، كان ذلك في عصر لا بريد إلكترونياً فيه ولا مؤتمرات عبر الفيديو ولو كان لما تركها عمر ثانية واحدة، كان عمر قد فتح خطاً ساخناً بكتاب كل يوم ينقل له فيه سعد كل التفاصيل... كلها من العراق إلى المدينة.

كان عمر يلح في الطلب، يريد المزيد من الوصف، من التفاصيل، كان يريد أن يكون في المشهد، كي ينظر عبره ويرى ما يجب عمله..

أحياناً ننسى أن الله ينصر عباده الذين ينصرونه، أي أن التدخل الإلهي مشروط وليس مطلقاً، وننسى أن نصر العباد لله يكون أولاً باتباع أوامره واجتناب نواهيه.. وأوامره تشمل ضمن ما تشمل "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل"، فالنصر الإلهي يكون مشروطاً بجملة شروط من ضمنها العمل على شروط النصر، والإعداد والتخطيط له..

كان مدداً يذكرهم بأن كلاً منهم يمكن أن يصير عدة رجال، وأن ذلك كله سيكون من اليسر الإلهي، وأنه سيغير معادلة الكثرة.

لم يكن الروم يتعاملون مع الناس، مع العالم من حولهم، كما ينبغي حتى بحسب الأناجيل التي بين أيديهم..

كانت الرموز الدينية موجودة في جيوشهم وقصورهم ومراسلاتهم وكل ما يصدر عنهم، لكن الدين لم يكن لا في حضارتهم ولا في دولتهم لو حذفنا الرموز الدينية "التعريفية" لما عرفنا أنهم ينتمون لمنظومة كتابية أصلاً! (هل يذكرنا هذا الشيء بأحدٍ نعرفه..؟)

وهكذا فإن الروم في النهاية كانوا يشبهون الفرس، وهرقل يشبه كسرى، وكذلك ربما يمكن أن نضيف للقائمة الكثير من القادة والزعماء.

في بعض المراحل سنكون "نحن" أيضاً في القائمة، وشخصيات تنتسب إلى الإسلام لكنها مثل هرقل استخدمت رموزاً إسلامية لكن سلوكها كان مفرغاً من أية قيمٍ على الإطلاق.

حضارة الإسلام كما نكتشفها عبر رد فعل المسلمين من دخولهم على قادة الروم والفرس، تتمثل في ذلك الاشمئزاز الذي يشعرون به أمام قلة قيمة الإنسان وتضاؤله أمام زيادة المظاهر والبهرجة، بالذات في علاقة ذلك بالاستعباد الذي يسود فيما بينهم كبشر.

مشروع الفتح الذي حمله المسلمون منذ اليوم الأول كان مشروعاً قد بُني على الإسلام، لذا كان لابد لهم - ولمن يقابلهم من الوفود في المقابل - أن يُصاب كل منهم بنوع من الصدمة الحضارية للتناقض الذي يحمله كل منهم في المعايير ألم تصبح هذه المظاهر هي مقياس البعض لكل تطور حضاري؟ ألا يشير ذلك لشيء ما، لتراجعنا عن إسلامنا وقيمه رغم حرصنا على الشعائر.

كانت الرمادة جوعاً شديدا أصاب الناس في الجزيرة العربية، لانقطاع المطر.. احتشد الناس على أطراف المدينة يطلبون العون وجد عمر نفسه في مواجهة مجاعة وفاقة كبيرتين، عامل المسؤولية الإنسانية في هذا الجفاف، كان أكثر ما يخيف عمر، أي أن يكون هذا الجفاف قد نزل نتيجة لفعل إنساني، يخشى أن يكون قد فعله هو وتُعاقب به الأمة كلها.. كان الاستغفار ومواجهة الذات بتقصيرها جزءا أساسياً من استراتيجية إدارة الأزمة والكارثة، لكنه لم يكن كل شيء.

كل مواقف عمر الفقهية كانت تسند المرأة وتساهم في مساعدتها على التحول من نموذج المتعة إلى المرأة الفاعلة، يشعرها بكيانها...

كان عمر الذي وافقه القرآن في أمر الحجاب، يرى في الالتزام بالحجاب علامة على الحرية، على كون المرأة حرة وصاحبة قرارها وإرادتها، لهذا كان ينهى الإماء عن لبس الجلباب، ومن تعتق من الإماء يمكنها أن ترتدي ثياب الحرية بالضبط عكس ما يفهم اليوم.

ولأن عمر كان يعي دور المرأة في تشكيل وتربية أبنائها، فقد كان لا يحبذ الزواج من الكتابيات رغم عدم وجود تحريم أو نص يمنعه.

كان من نتاج دعم عمر للمرأة الأخرى، أنه ولى نموذجاً من هذه المرأة الفاعلة القوية، ولاها منصباً يمكن أن يكون بمثابة منصب وزير في مسمياتنا اليوم.. إنها الشفاء، أول وزيرة في الإسلام.. ولاها عمر!

(عن عمر قال: إن الدين ليس بالطنطنة من آخر الليل، ولكن الدين الورع) من يقول ذلك هو عمر، الذي لم يكن يفوت ليلة واحدة دون أن يقومها، قيامه للّيل كان مليئاً بالأسرار، حتى أن عثمان بن أبي العاص قد تزوج إحدى زوجاته بعد وفاته لا لشيء إلا فقط ليعرف "السر" في ليل عمر.

ما الذي جعله يقول: "ليس الدين بالطنطة من آخر الليل"، أليس هذا ما يقوله غالباً المفرطون؟ لكن عمر على ما يبدو قد رأى من بعض من يقومون بالصلاة وبالشعائر ما لم يجعله يقلل من شأنها وشأن الالتزام بها، ولكن جعلته ينظر إليها من منظور أوسع، منظور فاعليتها وتأثيرها، من كونها تمتد لتكون موجودة وفاعلة طيلة الوقت، وليس فقط في وقت الصلاة.

إذا ذكر عمر، ذكر العدل! هذه هي الصفة الأساسية التي عرفت عن عمر، وارتبطت به في ذاكرة الأجيال عبر العصور..

كان أول ما ينهى عن شيء يجمع أهل بيته، وكل من يمكن أن يحسب عليه، ليس من باب أنهم قدوة، بل لأن الناس تراقبهم، لذا سيضاعف لهم العقوبة التي أقرها على الناس إن هم أتوا ما نهى عنه.. حسناً قد يقولها بعض القادة، لكن الفرق أن عمر يفعلها..!

بالنسبة لعمر كان العدل تحصيلاً حاصلاً، لم يكن عملاً متعمداً، كان جزءا من التزامه بما آمن به، جزءا من بديهيات إسلامه..

في كل ما كان يفعله وكل ما أدخله التاريخ، كان هناك دوماً الإيمان بالقرآن والسنة دافعاً، ضابطاً لهذا العدل العمريّ..

كان عمر إنساناً صُنع في القرآن وبالقرآن، هذا هو عمر الذي نريد استرداده، ليس الشخص، بل حقيقة أن هذا ممكن حدوثه مع بشر عادي.

حقيقة أننا يمكن أن نعيد تشكيل عقولنا وطريقة فهمنا ورؤيتنا بحيث نصبح ولو جزءا يسيراً مما صار..








الجمعة، 23 أغسطس 2013

كتاب الإسلام الحضاري (النموذج الماليزي)





كتاب الإسلام الحضاري (النموذج الماليزي)، بحث ودراسة مركز المسبار


هل الإسلام الماليزي يختلف عن الإسلام العربي؟ وإن لم يكن كذلك، فلماذا تقدمت ماليزيا وتخلف غيرها من الدول الإسلامية؟

يحاول هذا الكتاب سبر غور التجربة الماليزية، شارحاً تأثير العامل الديني الإسلامي في تطورها..


تتعدد تفسيرات ظهور الإسلام السياسي في ماليزيا؛ بعض تلك التفسيرات يعتمد على الحقبة الاستعمارية، وخبرة النضال الوطني ضد الاستعمار البرتغالي، ثم البريطاني لماليزيا، والافتراض هنا هو اعتماد فصيل من حركة التحرر الوطني الماليزية على الإسلام، واستدعاء مفاهيم الجهاد الإسلامي، ثم استمرار هذا التيار بعد الاستقلال كجزء من الصراع على تحديد الهوية.

اعتمدت بعض التفسيرات أيضاً على تأثير التفاعل بين الشرق الأوسط ومنطقة جنوب شرق آسيا، بشكل عام، على ظهور الإسلام السياسي في ماليزيا، إذ لا يمكن فصل تطور بعض الحركات الأصولية الإسلامية عن تأثير الثقافة العربية بشكل عام.


كما أن عدد كبير من الآسيويين تلقوا تعليمهم الديني في مؤسسات عربية، خاصة داخل الأزهر والمؤسسات التعليمية السعودية.


تأثر هؤلاء الطلاب خلال فترة دراستهم بالأصولية الإسلامية العربية، سواء من خلال احتكاكهم المباشر بأعضاء الحركات الإسلامية في العالم العربي، أو من خلال تأثرهم بالمناخ العام السائد في العالم العربي.


فهمالحركات الإسلامية في ماليزيا يتطلب طرح سؤالين متلازمين، الأول: ما هي مصادر ظهور تلك الحركات في ماليزيا؟

والثاني:ما هي مصادر ضعف ومحدودية الإسلام السياسي، خاصة العنيف، في ماليزيا؛ أو بالأحرى ما هي مصادر اعتدال الإسلام فيها؟


على الرغم من تحسن أوضاع المالاي بشكل كبير، فإن هذا لا ينفي استمرار حضور المشكلة العرقية في ماليزيا، ولجوء المالاي إلى الإسلام والخطاب الإسلامي كوسيلة للتعبئة السياسية لصالحهم في مواجهة الجماعات العرقية الأخرى.


كما حدث في بعض الدول العربية، حيث تم توظيف الإسلام السياسي كأداة لمحاربة الشيوعية، حدث ذلك أيضاً في ماليزيا فقد غضت الحكومات الماليزية الطرف عن الحركات الإسلامية، التي ظهرت خلال الستينيات والسبعينيات، كأداة لمواجهة المد الشيوعي.

بعض هذه الحركات قامت بتنفيذ مشروعات تنموية في مناطق مهمة بماليزيا، مما أكسبها شعبية كبيرة في هذه المناطق.

في ١٩٤٨ تم تحويل "المجلس الديني الأعلى" إلى حزب سياسي، اتخذ اسم "حزب المسلمين"، ثم تم تغيير اسمه إلى"الحزب الإسلامي الماليزي"، وقد برزت التوجهات الإسلامية للحزب في أوائل الثمانينيات، نتيجة سيطرة النخبة الدينية عليه.


وتتميز الملامح الإسلامية في تبنيه هدف إقامة دولة إسلامية في ماليزيا، وتطبيق الشريعة الإسلامية.

"جماعة المجاهدين الماليزيين" تأسست عام١٩٩٥ على يد أحد المجاهدين السابقين بأفغانستان ويدعى زينون إسماعيل، بهدف الإطاحة بنظام محاضير محمد، وإقامة دولة إسلامية تضم ماليزيا وإندونيسيا وجنوب الفلبين.

تعتمد الجماعة على استخدام العنف كوسيلة لتحقيق أهدافها، بما في ذلك استهداف المصالح الأمريكية في المنطقة.

يتصل أول مصادر اعتدال "الإسلام الآسيوي"بموقع مسلمي جنوب شرق آسيا داخل العالم الإسلامي، فرغم أن المسلمين الآسيويين يفوقون في عددهم مسلمي الشرق الأوسط، إلا أنهم ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم"أطراف" ذلك العالم بمقارنة بمسلمي الشرق.

الأوسط الذين يُعدون بمثابة المركز في نظرهم، وذلك رغم الفجوة العلمية والتكنولوجية والتنموية القائمة بينهما.


شكل العلماء المسلمون في الشرق الأوسط المصدر الرئيسي للفتوى لمسلمي جنوب شرق آسيا.


تمثل جماعة نهضة العلماء التيار والمنهج الإسلامي التقليدي، القائم على الالتزام بالتقليد والاقتباس من المصادر الفقهية العربية يدون ترجمة إلى اللغة القومية، وتتم عملية الافتاء داخل الجماعة بما يعرف بعملية بحث المسائل وقد بدأت الجماعة في إعادة النظر في طرق ومنهج الافتاء ابتداء من ١٩٨٧، انتهت بإقرار المؤتمر الوطني في ١٩٩٢م بالأخذ بمبدأ الاجتهاد، والابتعاد نسبياً عن المنهج التقليدي.


ارتبطت عملية دمج الإسلام في الحياة السياسية في ماليزيا بوصول محاضير محمد إلى السلطة عام ١٩٨١. إذ تمت دعوة الحكومة الماليزية في العام ذاته، إلى البحث في كيفية الاستفادة من الإسلام وقيمه في عملية التنمية.


وفي إشارة أكثر تعبيراً عن رغبة الحكومة في دمج الإسلام في السياسات والأجهزة الحكومية، أعلن محاضير في١٩٨٤م، شعار "أسلمة الأجهزة الحكومية".

كما قام محاضير محمد بوضع عدد من السياسات للتأكيد على الهوية الإسلامية للحكم.


أبرز تلك السياسات الإعلان عن إعادة النظر في النموذج الاقتصادي الماليزي بحيث يصبح أكثر توافقاً مع قواعد ومبادئ الإسلام.


زيادة مساحة البرامج الدينية في الإعلام، بدعوى إن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وأن جميع المواطنين مطالبين بمعرفة القيم الإسلامية.


كما أبدت ماليزيا مزيداً من الاهتمام بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي والجهاد ضد الاحتلال السوفيتي.

يبلغ عدد سكان ماليزيا ٢٥ مليون، ويتألف من مجموعات متعددة عرقياً ودينياً ولغوياً ويشكل المالاي والسكان الأصليون٦٦٪ ويدين معظمهم بالإسلام.


كانت بداية الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على الإرهاب في عام٢٠٠١ سبباً في التوقف التام للمسيرة السياسية للأحزاب الإسلامية في ماليزيا، حيث قدمت للحكومة المبرر لتشديد قبضتها وتحجيم نفوذ وتأييد الحزب الماليزي الإسلامي.


حرص عبدالله بدوي على إضفاء القبول الجماهيري لمفهوم الأسلمة، ورفع شعار الجمع بين التحديث والإسلام، فعمل على تقديم مشروع(الإسلام الحضاري)، بالتركيز علو الإمكانيات الحضارية للإسلام، وجعله محركاً للتنمية، ومولدا للحضارة والثقافة.


يهدف برنامج بدوي إلى تحقيق جملة مبادئ تشمل: تعزيز الإيمان، وتقوية الصلة بالله تعالى، والإدارة الحكيمة لموارد الدولة البشرية والمادية، وتأكيد تمتع الشعب بحريته واستقلاله، والتمكين لقيام مجتمع المعرفة والعلم.


الملاحظ في تجارب النهوض في أي بلد أو قومية أنها تسعى للإجابة على تساؤلين كبيرين، الأول: لماذ التخلف؟ والثاني:كيف النهوض؟ وكلا السؤالين من الأسئلة الكبرى في أي عملية نهوض، ولذا كان محوراً هاما في فكر وسياسة محاضير محمد.


في كتابه "معضلة المالاي في ماليزيا"، انطلق من حقيقة أن الحكومة الماليزية لا يمكن أن تنجح في حل مشكلة المالاي، ما لم يقتنع هؤلاء بأنهم في معضلة حقيقية، وإن دور الحكومة في تحسين أوضاعهم، لا يجب أن ينتهي إلا إذا وصل المالاي إلى المستوى الاقتصادي والثقافي والتعليمي لغير المالاي في ماليزيا، لذا من واجب الحكومة إقحامهم في الأنشطة الاقتصادية.


من أهم ما يلفت النظر في فكر محاضير، هو أنه انطلق من قاعدة محلية قومية، وهي تشخيص طبيعة المشكلة التي يواجهها الشعب.


وجه محاضير اهتماما للتركيز على التصنيع الموجه للتصدير، مع تطوير الصناعات ذات الأولوية، التي يتم اختيارها على أساس الميزة التنافسية العالمية، وتطوير القوى العاملة، واكتساب قدرات تكنولوجية، بحيث تتفوق ماليزيا وتتميز صناعيا.


في رؤيته التنموية، رأى محاضير ضرورة أن تقترن التنمية الاقتصادية بتحقيق المساواة، واستحالة أن يوجد انفصام بين الجانبين، خاصة في ماليزيا التي تتسم بتعددية عرقية ودينية، وكان حريصا على التنمية في ظل هامش كبير من المساواة.

احتلت اليابان مكاناً مهما في تجربة محاضير، حيث ساهمت سياسة الاتجاه شرقا التي تم تنفيذها بتصميم وعزم شديدين طوال الثمانينيات والتسعينيات على تغيير أوجه المجتمع الماليزي، حيث تم ابتعاث الكثير من المواطنين إلى اليابان، واقتباس الكثير من أساليب الإدارة اليابانية، بل واستنساخ التجربة اليابانية نفسها حتى في طريقة تجهيز المكاتب وشكلها.


كان محاضير يرى أن نهضة اليابان راجعة إلى طباع الشعب الياباني وأخلاقياته في العمل، إضافة إلى أساليب الإدارة، ولذا كان يرى أن سياسة التوجه شرقاً لا تعني مقاطعة الغرب، لكنها تعني تعلم أخلاقيات العمل الياباني.

كان ما يقلق محاضير أن يشعر الآسيويون في دواخل نفوسهم أن قيمهم لا ترقى إلى مستوى القيم الغربية، بل تفتقد القدرة على مواجهتها، وكان يُرجع هذا الشعور النفسي إلى فترة الاستعمار الغربي لغالبية البلدان الآسيوية.


محاضير لم يكن يتحدث عن بناء دولة إسلامية في ماليزيا، ولكنه تحدث عن بناء دولة حديثة تحقق الأهداف العامة للإسلام.


كان يعتبر الإسلام ديناً منفتحا متسامحا، لذا لم يكن يشعر بنقص ما عندما يتعامل مع غيره من الغربيين أو غيرهم، ولم يحاول أن يفرض مساحة التزامه الديني والأخلاقي عليهم.


فضل محاضير على الدوام تقوية علاقاته بالدول الآسيوية بدلاً من الغربية، واعتبر أن استراليا دولة غربية تستأسد على اندونيسيا الضعيفة، وقد أيد كثير من ساسة اندونيسيا محاضير في هذا الرأي.


حينما تم تعيين عبدالله بدوي وزيراً للخارجية عام ١٩٩١، لم يكن يمتلك بيتاً في العاصمة مع أنه استلم ٣ مناصب وزارية سابقا.



فبعد خلافه مع محاضير وانعزاله العمل السياسي، اضطر لبيع منزله الوحيد حتى يدبر نفقات أسرته

عبدالله بدوي، والده وجده من أهم رموز البعث الإسلامي في ماليزيا، وقد عرف عن أسلافه أنهم من المتعمقين في علوم الدين...

أهم نقاط قوته أمانته التي يقر بها أعداؤه أيضاً، ولعل شعبيته تكمن في عدم ضلوعه في مناسبات أو أحداث أو مشاركات اقتصادية تُثير الجدل حوله، أو تُسقطه كما أسقطت غيره.

ولأن الرجل يتمتع بحس عالٍ بالمسؤولية، فقد عمد إلى برنامج طموح لإعادة غرس الحس بالمسؤولية في نفوس المسؤولين وفي نفوس أبناء الشعب، وأعاد لهم الإحساس بأن ماليزيا ليست فقط محاضير أو بدوي، بل إنها الشعب كله والأرض كلها.

طرح عبدالله بدوي مشروع الإسلام الحضاري سنة ٢٠٠٥ والذي اعتبره مشروعاً نهضوياً للأمة الماليزية.

اختلف بدوي عن محاضير في الهدوء والتوازن بينما كان محاضير مندفعاً ولكن جسوراً في الآن نفسه..

كانت ميزة تصور الإسلام الحضاري وتياره أن القائمين عليه كانوا من رجال الدولة، فقد كان صانعه تحديدا هو رئيس الوزراء الماليزي عبدالله بدوي ومفكرون مرتبطون به وبسلفه محاضير محند، مما جعله تصوراً شاملاً يحمل أبعاداً عملية وتنفيذية.

ويلح مشروع الإسلام الحضاري تحت عنوان"التطلع" أن هذا التصور الحضاري يتطلع إلى جعل ماليزيا أنموذجاً للدولة الإسلامية المثالية، أي دولة إسلامية مُتقدمة وفق معاييرها الخاصة.

بالرغم من أن هناك وعياً بأن الإسلام هو طريق الحياة، فإنه بات مجرد شعار، بل إن أغلبية أفراد المجتمع يستصعبون قبول فكرة أن نهضة الأمة وحضارة الشعب وبناء الدولة، تدخل ضمن الإطار الذي يشمله الدين كما يدعو إليه الإسلام بالفعل.

إن مبدأ الإسلام الحضاري لا يعد مذهباً حديثاً، وإنما هو وسيلة تُتخذ من أجل إعادة الأمة الإسلامية إلى أسس القرآن والسنة.

يركز مبدأ الإسلام الحضاري على التنمية وتشييد الحضارات وفق المنظور الإسلامي الشامل، ويكون ذلك بتكثيف الجهود من أجل رفع مستوى الحياة والمعيشة، من خلال الإلمام والتمكن من العلوم والمعارف، والتنمية الروحية والمادية.

من أهم المبادئ التي يرتكز عليها الإسلام الحضاري، تكوين مجتمع يتمتع باستقلالية النفس والتفكير.

ومن أبرز مميزات هذا النوع من الاستقلالية، الحرية في الإبداع والتفكير والابتكار.

تجدر الإشارة إلى أنه برغم تعدد القيادات الماليزية، إلا أن محاضير محمد الذي حكم البلاد زهاء الاثنين والعشرين عاماً (١٩٨١- ٢٠٠٣) يُعدّ بالأساس مهندس ومحرك التجربة التنموية الماليزية.

أولت ماليزيا أهمية كبرى للتخطيط الاقتصادي، حتى قبل حصولها على الاستقلال، حيث هدفت "الخطة الاقتصادية الأولية" من ١٩٥٦-١٩٦٠ إلى إحداث تطوير جذري في البنية التحتية للبلاد، ثم توالت الخطط التي أخذت على عاتقها تواصل التنمية.

ومما يذكر أن الأقلية الصينية في البلاد، كانت قد استطاعت منذ بداية الاستقلال، الاستئثار بأكبر قدر من عوائد التنمية وهو ما أثار حفيظة المالاي الذين يشكلون حوالي ٦٠٪ من التعداد الإجمالي لسكان ماليزيا.

كما تمكنت سياسة ماليزيا من التقليل من معدلات الفقر، وإن لم تتوصل إلى القضاء عليه نهائياً، حيث تراجعت نسبته من ٤٩٪ إلى ١٦٪ خلال الفترة الزمنية للخطة، وهي عشرون عاماً، كما حرصت على الارتقاء بالمناطق الريفية.

امتد مجال التنمية الاجتماعية إلى تحسين الإسكان للارتقاء بمستوى المعيشة بصفة عامة، حيث مثلت قضية الإسكان أحد أهم أولويات التنمية الاجتماعية، من خلال اتاحة الفرصة لمحدودي ومتوسطي الدخل في الحصول على مسكن مناسب.

تأكيداً على اهتمام الحكومة الماليزية بقضية التعليم، أعلن رئيس وزرائها محاضير محمد عن تشكيل لجنة برئاسته في أواخر عام ٢٠٠٢، لمراجعة نظام التعليم بالمدارس القومية.

كفل الدستور الماليزي الحق لكل مجموعك دينية أن تنشئ معاهد لتعليم ديانتها لأطفالها.

أكد محاضير على تعميق القيم الإسلامية في المناهج الدراسية بالمدارس، حيث تم ادراج الدراسات الإسلامية للطلاب المسلمين والتربية الأخلاقية لغير المسلمين، وتأكيد القيم الإسلامية في العلم، وألغى تدريس نظرية دارون من المناهج.

الأربعاء، 14 أغسطس 2013

كتاب أعظم سجين في التاريخ





كتاب: أعظم سجين في التاريخ

المؤلف: د. عائض القرني

دار النشر: العبيكان

عدد صفحات الكتاب:  175
يقول الدكتور عائض القرني في مقدمته للكتاب، اخترت سورة يوسف؛ لأنها من أعظم القصص، حتى قال بعض أهل العلم: إنها أعظم قصة سمعنا بها، قال سبحانه: (نحن نقص عليك أحسن القصص).


قالو سورة يوسف أحسن القصص: لأن فيها من قصص الأنبياء والرسل - عليهم السلام - والملوك والتجار والفقراء والشدة والفرج والغنى والفقر، وذكر الفاحشة والعفاف، والرؤيا المنامية...، وقالوا أحسن القصص لأن كل ما جاء فيها عاد إلى أحسن حال.

قد يكون من غير أهل العرب أهل فنون أكثر منا، أو أهل حضارة أكثر منا، أو أهل تأليف أكثر منا، لكن العرب بالذات أهل فصاحة وبيان.

قال تعالى: (إنّا)، قدم الضمير تشريفاً لما سوف ينزله لتنصت الأسماع لهذا الكتاب المنزل المبارك على رسوله عليه الصلاة والسلام.

(إنّا أنزلناه) ولم يقل خلقناه وهو رد على المعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن، بل كلامه سبحانه وتعالى منزل تكلم به، وليس مخلوقاً.

(قرآناً عربياً)، وهنا وقفة مهمة، فمن صفات هذا الكتاب إنه عربي، قالوا: فأحسن اللغات، وأوسعها في المعاني وأكثرها تبياناً للفهم، وإيصالاً للمعلومة، وإيقاظاً للذهن هي اللغة العربية.
يقول ابن تيمية - رحمه الله -: من حب الإسلام أن تحب العربية؛ لأنها لغة القرآن، ولغة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنزل بها الوحي.

ابن تيمية عندما كان عمره ثماني سنوات، كان يمرغ وجهه في التراب ويقول: يا معلم إبراهيم علمني، يا مفهم سليمان فهمني..

(لعلكم تعقلون)، هذه رسالة موجهة لمن يعقل، (نحن)، ليس أحد غيرنا، لا مؤلف كتب ولا لفيلسوف، حق له سبحانه أن يعظم نفسه وهو العظيم.

في السند الحسن: "كان عمر إذا صلى بالناس وبلغ قوله (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم)،انهار باكياً في صلاة الفجر فبكى المسلمون.
قالوا: " ومن أتته مصيبة فقرأ سورة يوسف وجد منها من الفرج ومن الرزق ما الله به عليم".

ابن جرير يُسأل في التفسير: لماذا ذكر الله سورة يوسف، وقصها للناس؟
وذكرُ الذنبِ الذي تعرض له يوسف عليه السلام، قال: "ليكون أسوة لكل من وقع
في مثل ذلك، ولكل من وقع في كُربة وكل من وقع في مصيبة، وفي هذا الموقف
الضنك فهذا قدوة وإمام لهم عليه السلام".

قالوا: " ومن أتته مصيبة فقرأ سورة يوسف وجد منها من الفرج ومن الرزق ما الله به عليم".
والله ميز بعض الأنبياء على بعض بشيء، مثل داود أعطاه الصوت الذي يسلب الألباب، وأتى محمد صلى الله عليه وسلم المقام المرفوع.
يقول العلماء: نام يوسف تلك الليلة، فرأى رؤيا في المنام، فقام الطفل وذهب إلى أبيه، وقال: (يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكبا...)
فعرف يعقوب عليه السلام الأمر لأنه كان يُعبر الرؤى، فقال له: انتبه لا تقل لإخوانك شيئاً عن هذه الرؤيا؛ لأنها رؤيا عظيمة.
(إن الشيطان للإنسان عدو مبين)، قال: إن هذا الحسد من الشيطان، هناك شيطان سول لهم وأملى لهم، وليس من طبيعة إخوانك فهم أهل خير.
(وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث)، قال بعض المفسرين: يعلمك من النبوة، أو العلم النافع أو تعبير الرؤيا وكله حصل.
كان الحسن البصري يبكي إذا قرأ سورة يوسف ويقول: لا إله إلا الله، كم ارتكبوا من العقوق، عقوا أباهم وأبكوه وأحزنوه، وأخذوا أخاهم أسيراً ووضعوه في الجب، ثم كذبوا على أبيهم، وغير ذلك إلى أن سألوا أباهم أن يستغفر لهم من أكرم الأكرمين الواحد الأحد.
(إنما أشكو بثي وحزني إلى الله)، قال أهل العلم: لا يوجد أشد حباً من الرجل إذا تعلق بابنه فهو يصبح كالطفل إذا تعلق بأمه أو أشد.
(وتكونوا من بعده قوماً صالحين) قال أهل العلم: وهذا أملهم بالله ودليل على أنهم ما زالوا قريبين منه سبحانه..
(لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب)، في جب يعني بئر محفورة وليس لها جدار، سبحان الله ما أقسى قلب الحاسد! يأتون بأخيهم ويضعونه في بئر في ظلام الليل وبين الذئاب والوحوش، بعيد لا أهل ولا أنيس، ولا طعام ويكون البئر بلا جدار حتى لا يصعد منه.

خروج يوسف مع إخوانه لن يكون مستنكراً عند يعقوب، ولو كان مستنكراً لمنعه من الخروج واللعب معهم، إنما خاف عليه.

لما ذهبوا بيوسف عليه السلام ودعه أبوه، قال أهل العلم: فلما ذهبوا بيوسف، أخذوا يقبلونه ويقولون يا أخانا لا تخف نحن معك نحن إخوانك؛ لأن النبي عليه السلام كان واقف أمامهم، اطمأن على ابنه، فلما غابوا عنه في الجبل أخذوا يبصقون في وجهه، هذا يجره، وهذا يُقيده، وهذا يقول له: تحرك امش أسرع هذه ألفاظهم المقصودة المعنى في ألفاظ القرآن.

فلما وصل إلى القاع وصل إلى صخرة ليست بالماء فقطعوا الحبل، لكن حبل ذي الجلال والإكرام موصول، وفي الليل مع صلاة المغرب وضعوه. فأوحى الله إليه وهو طفل " أنا معك يا يوسف" وهي المعية الخاصة، معية الله بالحفظ والرعاية كما قال أهل السنة.

(وقال الذي اشتراه من مصر لأمرته أكرمي مثواه)، قال ابن مسعود عند هذه الآية: أفرس الناس ثلاثة: العزيز لما قال لأمرته أكرمي مثواه، فهي فراسة وأتت فيما بعد أنه نبي وملك، والثاني بنت شعيب عندما قالت لأبيها عن موسى: استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين. والثالث: أبو بكر حين اختار عُمر للخلافة "رضي الله عنهما".
(والله غالب على أمره)، هذه قاعدة وسنة ثابتة، قالوا: الله أمره يغلب كل أمر، وتنفذ مشيئته على كل مشيئة، فمن ذلك أن يعقوب عليه السلام قال لابنه: (لا تقصص رؤياك)، فغلب أمر الله فقص رؤياه.
(لولا أن رأى برهان ربه)، فلما رأى برهان ربه لم يقدم بل أحجم واستغفر، فما هو برهان ربه؟ قالوا رأى صورة يعقوب أبيه وهو يعض إبهامه. وهذا بعيد، والصحيح أن برهان ربه واعظ الله في قلبه، ومعرفة الحلال والحرام، وقيام الدليل على قبح الزنا.

(يوسف أعرض عن هذا)، يقول ليوسف: أرجوك لا تحدث بذلك؛ لأن القصر له احترام مخصوص، والبيوت لها أسرار، أرجوك لا تتحدث عن هذا..
يقول المفسرون: إن الخبر لم يكتم لكن ليس من يوسف، بل من الحرس والخدام والحجاب انتشر الخبر في مصر بسببهم.
(إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله)، قيل: يقصد أهل القصر؛ لأنهم كانوا وثنيين لا يؤمنون بالله، فأن تركتهم بالقصر وجئت إليكم.
(أما أحدكم فيسقي ربه خمرا)، وفيها أن الرؤى تُعبر للناس إذا لم يكن فيها مضرة.
(قضي الأمر الذي فيه تستفتيان)، صدقوا أو لا تصدقوا هذا الأمر الذي أطلعه الله عليه؛ لأنه نبي؛ فأصبحت عبارات القرآن قواعد من البلاغة والبيان تنشر وتحفظ بين الناس. وذلك لأن الله أطلعه عليها، وقيل: لم يكذب في رؤيا عبرها عليه السلام.

قال ليوسف: أيها الصديق، يقول أهل العلم: كيف عرف أنه صديق؛ لأنه عاشره سبع سنوات في الحبس، فرأى صدقه وأمانته وأخلاقه..
(وقال الملك ائتوني به)، لأن تعبير الرؤيا رغب الملك فيه؛ جاء الرسول يسعى إلى فتح الباب، قال: يوسف عليه السلام: لا لن أخرج..
يقول العلماء: انظر إليه في جانب تبرئته في عرضه، ثبت وفي جانب الخروج، قال: اذكرني عند ربك، لا تنس تآخينا في السجن.

(قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة)،لماذا تآمروا علي، هل أنا فعلت ذلك؟ إما أن تأتي براءتي على رأس الملك والدولة وإلا سأبقى.

(قالوا يا أبانا ما نبغي)، أكرمنا وأنزلنا قصره، وزاد لنا في الكيل، رد الثمن، والله لا يمكن للإنسان أن يبغي من وراء هذا شيئاً.

(وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد)، قال مجاهد: خوفاً من العين والله أعلم، خاف عليهم لكثرتهم ولجمالهم.

(فأسرها يوسف في نفسه)، وهذا من الذكاء والدهاء والحكمة، ألا تستفزك المواقف المغضبة فتخرج كلاماً ليس فيه مصلحة لك.

(وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم)، ذكر ابن الجوزي في زاد المسير، قال: يعقوب يبكي بين يدي ربه وهو يصلي ويسجد لربه، يا رب ارحم شيبتي، ارحم ضعفي، ارحم ابيضاض عينوني، فأوحى الله إليه يا يعقوب وعزتي وجلالي وارتفاعي على خلقي، لو كان ابناك ميتين لأحييتهما لك، فردهم الله سبحانه وتعالى عليه.

(إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون)، ما الذي يعلمه يعقوب عليه السلام من الله ما لا يعلمه أبناؤه؟ قال أهل العلم: أعلمه جبريل أن ابنك يوسف محفوظ وسوف تجتمع فيه. وقال الثاني: عُلّم أن الله عز وجل لن يخذل يوسف، ولن يتركه.

(لا تثريب عليكم اليوم)، قالوا: الكريم: لا يثرب، وإذا عفا الكريم عفا، فلن أُعاتبكم غداً.
(إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون)، أخشى أن تسفهوني، وإلا أنا ما أنكرت شيئاً، وما خانني يقيني، وما خانني ظني.

(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث)، قال: من الملك، ولم يقل: الملك كله؛ لأنه لم يحكم إلا مصر فقط، كذلك لم يعلمه تأويل الأحاديث كلها بل علمه كثيراً منها، وإلا فالعلم المطلق للواحد الأحد جل في علاه.