الأربعاء، 25 يونيو 2014

كتاب الفوائد

كتاب: الفوائد
تأليف: ابن قيم الجوزية
دار النشر: المكتبة العصرية
دأب العلماء على جمع ما يستحسنونه – مما طالعوه في كتاب أو استفادوه من جليس أو نقلوه من شيخ أو انقدح في أذهانهم من فكر – في مجموع غير موحد الموضوع لكن عميم الفائدة. ومن جملة هذه الكتب التي ذاع صيتها، كتاب الفوائد للإمام ابن قيم الجوزية.
"قاعدة جليلة"
إذا أردت الانتفاع بالقرآن: فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضورك من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله، قال تعالى:
(إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)
وقوله: (لمن كان له قلب) المراد به القلب الحيّ الذي يعقل عن الله.
وقوله: (أو ألقى السمع) أي وجه سمعه، وأصغى حاسة سمعه إلى ما يُقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام.
فإذا حصل المؤثر وهو القرآن؛ والمحل القابل، وهو القلب الحي؛ ووجد الشرط، وهو الإصغاء؛ وانتفى المانع، وهو انشغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر.
"فائدة جليلة"
تفسير آية (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور)
أخبر سبحانه أنه جعل الأرض ذلولاً منقادة للوطء عليها، وحفرها، وشقها، والبناء عليها، ولم يجعلها مستصعبة ممتنعة على من أراد ذلك منها.
فمن بركة الأرض أن الحيوانات كلها وأرزاقها وأقواتها تخرج منها.
ومن بركتها أنك تودع فيها الحب فتخرجه لك أضعاف أضعاف ما كان.
ومن بركتها أنها تحمل الأذى على ظهرها، وتخرج لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها؛ فتواري كل قبيح منه كل قبيح، وتخرج له كل مليح.
والمقصود: أنه سبحانه جعل لنا الأرض كالجمل الذلول الذي كيفما يُقاد ينقاد.
طريق معرفة الله:
الرب تعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته من طريقين:
أحدهما: النظر في مفعولاته.
والثاني: التفكر في آياته وتدبرها.
فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة.
قال بعض العارفين: كيف أطلب الدليل على من هو دليل لي على كل شيء.


الضدان لا يجتمعان:
إذا كان القلب ممتلئاً حُباً للباطل اعتقاداً ومحبة، لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع. كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع، لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه، إلا إذا فرّغ لسانه من النطق بالباطل. وكذلك الجوارح، إذا اشتغلت بغير الطاعة، لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرّغها من ضدها.
حكم وفوائد:
إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.
أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وانفع لها في معادها.
لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين.
من عظّم وقار الله في قلبه أن يعصيه وقّره الله في قلوب الخلق أن يذلوه.
يا آدم لا تجزع من قولي لك (اخرج منها) فلك ولصالح ذريتك خلقتها.
يا آدم لا تجزع من كأس زلل كانت سبب كيسك، فقد اُستخرج منك داء العجب وألبست خلعة العبودية (وعسى أن تكرهوا).
كيسك: حذقك وفطنتك.
عبر وحكم بالغة:
من فقد أنسه بين الناس، ووجده في الوحدة، فهو صادق ضعيف.
ومن وجده بين الناس، وفقده في الخلوة، فهو معلول.
ومن فقده بين الناس، وفي الخلوة، فهو ميت مطرود.
ومن وجده في الخلوة، وفي الناس، فهو المحب الصادق القوي في حاله.
ومن كان فتحه في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها.
ومن كان فتحه بين الناس ونصحهم وإرشادهم كان مزيده معهم.
فأشرف الحوال أن لا تختار لنفسك حالة سوى ما يختاره لك ويقيمك فيه؛ فكن مع مراده منك ولا تكن مع مرادك منه.

(معرفة الله والإعراض عنه)
من أعجب الأشياء: أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن الإجابة، وان تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته.
وأعجب من هذا: علمك أنك لا بد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت عنه مُعرض، وفيما يُبعدك عنه راغب!
 مصادر الحرام:
ما أخذ العبد ما حُرم عليه إلا من جهتين:
إحداهما: سوء ظنه بربه، وأنه لو أطاعه وآثره لم يعطه خيراً منه حلالاً.
والثانية: أن يكون عالماً بذلك، وأن من ترك لله شيئاً أعاضه خيراً منه، ولكن تغلب شهوته صبره، وهواه عقله.
فالأول من ضعف علمه، والثاني من ضعف عقله وبصيرته
قال يحيى بن معاذ: من جمع الله عليه قلبه في الدعاء لم يرّده.
قلت: إذا اجتمع عليه قلبه، وصدقت ضرورته وفاقته، وقوي رجاؤه، فلا يكاد يُرد دعاؤه.
فوائد وحكم متفرقة:
شهوات الدنيا كلعب الخيال، ونظر الجاهل مقصور على الظاهر، فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر.
تا الله ما كانت الأيام إلا مناماً، فاستيقظوا وقد حصلوا على الظفر.
إنما تفاوت القوم بالهمم لا بالصور.
لا تسأل سوى مولاك؛ فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه.
إذا خرجت من عدوك لفظة سفهٍ، فلا تُلحقها بمثلها تُلقحها، ونسلُ الخصام نسلٌ مذموم.

حُسن الخلق والتقوى:
جمع النبي "صلى الله عليه وسلم" بين تقوى الله وحُسن الخلق؛ لأن تقوى الله تُصلح ما بين العبد وبين ربه، وحُسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه، فتقوى الله توجب له محبة الله، وحُسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.
مواعظ وعبر:
بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تُقطع بخطوتين: خطوة عن نفسه، وخطوة عن الخلق؛ فيسقط نفسه ويلغيها فيما بينه وبين الناس، ويسقط الناس ويلغيهم فيما بينه وبين الله؛ فلا يلتفت إلا إلى من دله على الله وعلى الطريق الموصلة إليه.
مواعظ وحكم:
من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس.
من عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه.
أخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله بنفسه، بل أخسر منه من اشتغل عن نفسه بالناس.
منافع الجهاد:
قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلنا).
علق سبحانه الهداية بالجهاد؛ فأكمل الناس هداية أعظمهم جهاداً. وأفرض الجهاد: جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا.
إذا رأيت الرجل يشتري الخسيس بالنفيس، ويبيع العظيم بالحقير؛ فاعلم بأنه سفيه.
حكم وفوائد:
لما علم السيد أن ذنب عبده لم يكن قصداً لمخالفته ولا قدحاً في حكمته، علّمه كيف يعتذر إليه (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه).
العبد لا يريد بمعصيته مخالفة سيده ولا الجرأة على محارمه، ولكن غلبات الطبع، وتزيين النفس والشيطان، وقهر الهوى، والثقة بالعفو، ورجاء المغفرة.
ذنب يدل به أحب إليه من طاعة يدل بها عليه.
المعرفة بساط لا يطأ عليه إلا مقرب، والمحبة نشيد لا يطرب عليه إلا مُحب مغرم.
اشتغل به في الحياة يكفك ما بعد الموت.
تالله ما عدا عليك العدو إلا بعد أن تولى عنك الوليّ، فلا تظن أن الشيطان غلب، ولكن الحافظ أعرض.

الاختلاف في حقيقة الإيمان:
وأما الإيمان فأكثر الناس، أو كلهم، يدّعونه (وما أكثرُ الناسِ ولو حرصت بمؤمنين) وأكثر المؤمنين إنما عندهم إيمان مجمل. وأما الإيمان المفصل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة وعلماً وإقراراً ومحبة ومعرفة بضده وكراهيته، فهذا إيمان خواص الأمة وخاصة الرسول، وهو إيما الصديق وحزبه.
أقرب الوسائل إلى الله: ملازمة السنة، والوقوف معها في الظاهر والباطن، ودوام الافتقار إلى الله، وإرادة وجهه وحده بالأقوال والأفعال، وما وصل أحد إلى الله إلا من هذه الثلاثة، وما انقطع عنه أحد إلا بانقطاعه عنها أو عن أحدها.
ترك الأوامر أعظم من ارتكاب المناهي:
قال سهل بن عبد الله: ترك الأمر عند الله أعظم من ارتكاب النهي؛ لأن آدم نُهي عن أكل الشجرة فأكل منها فتاب عليه، وإبليس أُمر أن يسجد لآدم فلم يسجد فلم يتب عليه.
قلت: هذه مسألة عظيمة لها شأن، وهي أن ترك الأوامر أعظم عند الله من ارتكاب المناهي، وذلك من وجوه عديدة:
أحدهما: ما ذكره سهل من شأن آدم وعدو الله إبليس.
الثاني: أن ذنب ارتكاب النهي مصدره في الغالب الشهوة والحاجة، وذنب ترك الأمر مصدره في الغالب الكِبر والعزة.
قاعدتا الدين: الذكر والشكر.
مبنى الدين: الذكر والشكر، قال تعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون).
وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان، بل الذكر القلبي واللساني، وذكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته، وذكر أمره ونهيه، وذكره بكلامه.
وأما الشكر، فهو القيام له بطاعته، والتقرب إليه بأنواع محابة ظاهراً وباطناً، وهذان الأمران هما جماع الدين؛ فذكره مستلزم لمعرفته وشكره، متضمن لطاعته.
وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس والسماوات والأرض، ووضع لأجلها الثواب والعقاب، وأنزل الكتب وأرسل الرسل.
أنواع المواساة للمؤمنين:
المواساة للمؤمنين أنواع: مواساة بالمال، ومواساة بالجاه، ومواساة بالبدن والخدمة، ومواساة بالنصح والإرشاد، ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم، ومواساة بالتوجع لهم.
دخلوا على بشر الحافي في يوم شديد البرد وقد تجرد وهو ينتفض، فقالوا: ما هذا يا أبا نصر؟ فقال: ذكرت الفقراء وبردهم وليس لي ما أواسيهم به، فأحببت أن اواسيهم في بردهم.



هناك تعليق واحد: