الخميس، 20 مارس 2014

كتاب في مهب الريح

كتاب في مهب الريح "مقالات
 للمؤلف: ميخائيل نعيمة،
 مؤسسة نوفل للنشر،
 (180) صفحة.
من التشابيه المألوفة حتى الابتذال تشبيهنا الشيء بالريشة إذا هو بالغ في خفة الوزن. ثم تشبيهنا ما ليس على شيء من الاستقرار بريشة في مهب الريح. وإني لأستعين بالتشبيه الأخير لأنقل إلى أذهانكم صورة العالم كما يتراءى لي في هذه الأيام. فهو في نظري ريشة – وأخف من ريشة – في مهب الزعازع الهوج التي تجتاحه من كل فج وصوب.
ما عرفت البشرية على مدى تاريخها الطويل فترة من الارتباك، والقلق، والذعر، وتشرد القلب والذهن كالفترة التي تتخبط في دياجيرها اليوم.
لن أُعطيكم مثالاً على ذلك ما تشهدونه من صراعٍ دامٍ وغير دام بين مذاهب العالم من سياسية واجتماعية ودينية وسواها. وأُعطيكم مثالاً هذه السيول الجارفة من الدعاوة للسلم والحرب معاً.
فساسة العالم الذين ملأوا العالم تسبيحاً هم هم الذين ملأوه تجديفاً عليه.
فيبشرون بالسلم إذ هم يعدون عدة الحرب، قائلين: أنهم لا يروجون للحرب حُباً بالحرب بل حِفاظاً على السلم!
عِدّة السلم الصدق، وعِدّة الحرب الكذب.
عِدّة السلم الأمانة، وعِدّة الحرب الخيانة.
عِدّة السلم التعاون، وعِدّة الحرب التنابذ.
عِدّة السلم التعمير، وعِدّة الحرب التخريب.
لئن كانت لنا في حافظة الزمان السحيق صفحات مشرقات بالعدل والبطولة والنبل والإباء والإيمان بقدسية الحياة وجمال منبعها الإلهي، فإن لنا بجانبها مجلدات سوداً تنضح بالظلم والجبن والخساسة والذل.
فليس من الصدق ولا من الرجولة في شيء أن نذكر الصفحات وننسى المجلدات.
ونحن إذ فعلنا ذلك جنبنا على أنفسنا وعلى بنينا وبني بنينا، وكُنا كمن يستر عريه بثوب مستعار.
فمن شأن تغنينا بماضينا أن يصرف همنا عن خزي فيا إلى مجدٍ ليس لنا.
الذين يفتشون عن حياتهم وحريتهم في سلب غيرهم الحياة والحرية، وعن سلمهم في شن حروب لا نهاية لها على سواهم، فمقضي عليهم بأن يبقوا ريشة في مهب الريح.
إذ أنهم كما يسلبون يُسلبون، وكما يحاربون يُحاربون. وهم أبداً ينتهون حيث يبتدون، ويدورون في حلقة مفرغة ولا يعلمون.

لئن اكتملت لك كل الصفات الحميدة، إلا رحابة الصدر، بقيت ريشة في مهب الريح وألعوبة في يد محكوميك. ورحابة الصدر تعني الصبر الجميل على المعارضة من أي نوعٍ كانت ومن أيما مصدر جاءت.
وأنت بغير معارضة جواد بغير لجام ومركب بغير شراع.
لولا المعارضة، لما كانت حركة أو حياة. فهي من الأكوان حجر الزاوية، ومحور الدائرة، ونقطة الانطلاق.
احذر الذين يغالون في مدحك قبل أن تحذر الذين يغالون في قدحك. واحذر أكثر من المادحين والقادحين أولئك الذين لا يمدحون ولا يقدحون. فسلاحهم أمضى من سلاحك لأن صدورهم أرحب من صدرك. وهم يعرفون أن مادح السلطان كاذب وإن صدق. وأن قادح السلطان صادق وإن كذب. ولأنهم يعرفون ذلك تراهم لا يمدحون ولا يقدحون.
ما اختصم اثنان، في أمرٍ من الأمور إلا لأن صدر  كليهما ضاق بمعارضة الآخر. ومن ضاق صدره بالمعارضة ضاق بالحياة التي لا تقوم بغير المعارضة. ومن ضاق صدره بالحياة فما نفعه من تجاريب الحياة؟ إنه لعبء على الحياة والموت معاً.
"الدين والمدرسة"
قامت المدرسة أول ما قامت في كنف الدين وترعرت في حضنه، وما ذلك الماضي ببعيد يوم كان الراغب في تعلم القراءة والكتابة لا يجد له معلماً، غير راهب في دير، أو  كاهن في معبد، أو شيخ في مسجد.
 ثم انتقلت المدرسة من كنف الدين إلى كنف الدنيا – من الدير والهيكل والمسجد إلى وزارة المعارف.
وأقول لو أن الدين والمدرسة تفاهما على هدف الإنسان من وجوده ثم تعاونا على الوصول به إلى ذلك الهدف لأصبحت أرضنا سماء وأصبح عالمنا جنة.
لقد أقامت البشرية أهدافاً كثيرة لنفسها منذ أن استوطنت الأرض حتى اليوم. إلا أن الهدف الذي كان له أبعد الأثر في حياتها، وفي حياة الشباب على الأخص، هو الحرية – ذلك الهدف الذي أُريقت في سبيله أنهار من الدماء الزكية وجلها من الشباب.
المعرفة هي الطريق المؤدي إلى الحرية، والحرية هي الطريق المؤدي إلى المعرفة. فحيث لا معرفة لا حرية، وحيث لا حرية لا معرفة.
"الأدب والدولة"
ليس من ينكر أن للأدب أبعد الأثر في تكوين الأمم، وتوجيه مجاري حياتها. إلا أنه من الصعب، بل من المستحيل، تحديد ذلك الأثر وتقدير قيمته ومداه.
هذا كلام لا مجاز فيه ولا مغالاة، بل هو دون الحقيقة بكثير، وأضيق من أن يتسع لكل وجوهها. وهاهم الكُتاب والنُقاد والمؤرخون ما ينفكون يبحثون تأثير هذا الكاتب أو ذاك في حياة تلك الأمة أو هاتيك بل في حياة الإنسانية بأسرها.
فهل من يجهل أن موليير وفولتير وروسو وهيغو وبلزاك كانوا ملوكاً بغير عروش وكانوا أبعد أثراً في تاريخ بلادهم وتاريخ العالم من الجالسين على العروش في أيامهم؟
وقُصارى القول إن للأدب دولة لا تدول وسلطاناً لا يحول.
ما سمعتُ وما قرأتً حتى اليوم عن دولة أقامت وزارة للأدب. ولا عبرة بوزارات خلقتها أكثر الدول باسم الفنون الجميلة أو باسم الدعاية والنشر. فوزارة الفنون الجميلة تحصر جل همها في المتاحف والآثار، ووزارة الدعاية والنشر في بث الدعاية للدولة وسياستها ونشر ما يوافق غاياتها، ومحاربة ما يخالفها. أما الأدب الصحيح الذي هو أعظم وأنجع دعاية للدولة التي تنبته فحبله على غاربه، يشقى ويسعد، ويكبو وينهض، ويتقلص ويمتد في معزلٍ عن الدولة.
أيكون ذلك من سوء طالع الأدب؟ - لا بل هو من حسن طالع الأدب أن يحيا بحيوية فيه لا في الدولة، وأن يشق طريقه بساعديه لا بسيف ملك أو بسلطان برلمان.
إنه لمن الخير للأدب أن يبقى طليقاً من شِباك الدولة وبعيداً عن الأهواء التي تعصف بسياستها وبرجالها من حينٍ إلى حين.
فالأدب الذي يقيم لنفسه وزناً ويعرف لذاته قيمة يجب أن يصرف همه إلى الإنسان قبل حكامه، وإلى الأمة قبل الدولة. فلا يعير الحكام والدولة انتباهاً إلا على قدر ما ينحرفون بالإنسان عن طريقه القويم أو لا ينحرفون.
"أوزار اللغة"
لله ما أدهى اللسان والشفاه تتحرك بعشرين أو ثلاثين أو أربعين حرفاً لا أكثر، ثم ما أدهى الفكر يزاوج بين تلك الحروف فإذا بها مقاطع، وبين المقاطع فإذا بها كلمات تدل على كل ما تقع عليه العين، وتسمعه الأذن، وتلمسه اليد، وكل ما ينبض به القلب من حزن وفرح، وقلق واطمئنان، وشك وإيمان، ثم يزاوج بين تلك الكلمات فإذا بها عبارات وفصول وروايات. وإذ بها علوم وفنون، ومدنيات وحضارات.
تلك عجيبة الإنسانية الكبرى. ومن المؤسف أن يألف الناس اللغة، كما ألفوا أجسادهم والطبيعة من حولهم. فلا يبصرون فيها عجيبة، وأن يبصروا العجائب في اكتشافات العلم الحديث.
ما من لغة يتكلمها ويكتبها الناس في زمن الطيارة والراديو والصاروخ إلا تشكو تضخماً في ما ورثته عن ماضيها من قيود وحدود ترهق المتكلم والكاتب على السواء. فلا هي تجلو معنى ولا هي تدفع لبساً.
أريد ان أحصر كلامي في العربية وأبنائها.. فهي اللغة التي رضعتها مع اللبن، فمشت في دمي، وجرى بها قلمي، واتخذتها الترجمان الأول لقلبي وفكري. وإني لأسائل نفسي وأسائلهم: ما الذي فعلناه في سبيل لغتنا من بعد أن تسلمناها من أسلافنا؟ هل نحن عاملون على تنقيتها من أدرانها، وعلى تشذيب ما يبس من فروعها وأغصانها، وعلى إعتاقها من اوزار ماضيها التي ترهقها وترهقنا من غير ان تنفعنا بشيء أو ننفعها؟
لست من القائلين بتبسيط اللغة الفصحى إلى حد أن تصبح ضرباً من العامية المنمقة، ولكنني أقول: يا ليت الفصحى تأخذ بعض القواعد العامية. فهي لو فعلت ذلك لاستغنت عن الكثير من القواعد التي ما برحت تتمسك بها جيلاً بعد جيل.
وإنه لمن الخطل القادح والجهل المطبق أن ننكر على العامية عبقرية تستمدها من حيوية الشعوب الناطقة بها، كتلك التي استمدتها الفصحى في ما مضى من حيوية القبائل الناطقة بها.
"أوزار الاجتماع"
قيل "النظافة من الإيمان"، وهو قول حق، إذا نحن لم نقصره على نظافة البدن واللباس والمسكن.
فالفكر واللسان والذوق أحوج إلى النظافة من اليدين والرجلين، والوجه والشعر.. ، وليس أكره من ظاهر نظيف يستر باطناً قذراً.
إن تكن النظافة ضرباً من الإيمان والتعبد، فالقذارة ضرب من الكفر والتهتك.
إنها لعاطفة نبيلة أن تعود مريضاً لعلك تخفف من أوجاعه. أو أن تواسي ملتاعاً عساك تبرد لوعته. ولكنك عندما تعود مريضاً أو تزور محزوناً لا بدافع من نفسك بل امتثالاً لعادة أو لتقليد، فإنك تحمل وزراً ثقيلاً وتُحمل المريض والمحزون وزراً أثقل.
وإنه لمنتهى الشعور الإنساني أن تفرح لفرح جارك فتزيد في فرحه. ولكنك عندما تذهب إليه بلسان يتصنع الفرح وقلب يتأكله الحسد تسمم قلبك وقلبه.
إن أكثر ما يسنه الناس للناس من شرائع باسم السلامة والعدل والحرية، لقيود فوق قيود وأوزار فوق أوزار. والسلامة والعدل والحرية منه براء.
كيف يستقيم الحكم لشعب اعوجت مسالكه؟
كيف يسلك الحكام طريقاً سوياً في الحكم ومن ورائهم شعب ما رفعهم إلى الحكم إلا ليكونوا أداة نكاية لبعضه ضد بعضه، أو أداة منفعة لهذا الجانب منه دون ذلك؟
كيف يعدل الحاكم في شعبٍ يكره العدل؟
كيف يتواضع الحاكم بين قوم رفعه ذلهم إلى أكتافهم؟
أما تراهم يزحفون كالجراد لتهنئة نائب بنيابة أو وزير بوزارة؟
وهم يعلمون في أي مطبخ جهنمي طُهيت تلك النيابة وبأي الأحابيل الشيطانية اقتنصت تلك الوزارة.
لا لست بناسٍ أن في هذا الشعب أفراداً ضمائرهم نقية، وأعينهم شبعى، ونفوسهم عزيزة، وحسهم بالعدل وبالقيم الإنسانية الرفيعة صادق ومرهف. ولكنهم ليسوا الشعب. ولا هم يصلحون حكاماً للشعب. بذا قضت "الديموقراطية".
وخلع الحكام بالقوة يُدعى ثورة. والثورة في نظر القانون إن أفلحت كانت قانوناً فوق القانون، وكانت حرية بالتبخير والتمجيد. وإن أخفقت كانت عصياناً وخروجاً على القانون. وكانت بذلك جديرة بأقصى العقوبات وأفظع التنكيل.
إني أؤمن بالحجة تقرع الحجة، ولا أؤمن بالسيف يقرع السيف.
أتريدون لكم حكاماً عمالقة؟ إذن تفحصوا أنفسكم أولاً وتيقنوا من أنكم لستم بأقزام.
"مجد القلم"
الأدباء يُخلقون ولا يُصنعون. والفرق بين الأديب المخلوق والأديب المصنوع كالفرق بين العين الطبيعية والعين من زجاج.
من كان مُعداً للأدب فهو في غنى عمن يدله على طريقه. ففي داخله ومن خارجه حوافز لا تتركه يستريح حتى يتم التزاوج ما بين عقله وقلبه وذوقه وبين القلم والمداد والقرطاس.
وإن تسألوني: ماذا يحسن بكم أن تطالعوه أجبكم: إن ذلك يتوقف إلى حدٍ بعيد على ميولكم وأذواقكم وعلى مقدار جوعكم إلى المعرفة التي بدونها لا قيام لأي أدب.
وقبل أن تهتموا بما يقوله الناس فيكم اهتموا بما يقوله وجدانكم لوجدانكم.
اخلصوا لأنفسكم وأدبكم أولاً وإذ ذاك فصدوركم لن تضيق بذم ولن تنتفخ بمدح.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق