كتاب: أثقل من رضوى "مقاطع من سيرة ذاتية"
للكاتبة: رضوى عاشور
دار الشروق للنشر
الطبعة: الثانية 2013
(393) صفحة
تمزج
رضوى عاشور في هذه المقاطع من سيرتها الذاتية بين مشاهد الثورة وتجربتها في مواجهة
المرض طوال السنوات الثلاث الأخيرة، تربطها بسنوات سابقة وأسبق. تحكي عن الجامعة
والتحرير والشهداء، تحكي عن نفسها، وتتأمل فعل الكتابة.
الذي اختار لنا أسماءنا هو جدي
لأمي، سمّى الولد طارق مستبشراً بأول الذكور في ذريته المكونة من ست بنات،
وحفيدتين من كبرى بناته.
اختار لحفيده اسم طارق ليكون
سمياً لفاتح الأندلس وللجبل الذي يحمل اسمه.
فلما جاءت البنت بعد سنتين وتسعة
أشهر، اختار لها اسم جبل آخر، لا يقع في الطرف الغربي من المتوسط، بل يقع بالقرب
من المدينة المنورة، تضرب به العرب المثل في الرسوخ فتقول: "أثقل من
رضوى".
كنت بلغت الرابعة والستين حين بدأ
كتابة سيرتي الذاتية، أعي أن هذه السنوات ستفلت حتماً من حدودها، لأن أعمارنا كما
هو معروف، تفيض من أعمارنا، وتقفز بلا استئذان إلى ما قبلها أو ما حولها.
واقعة الرابعة من نوفمبر 2010
كان يوم خميس. كنت أرتدي ثوباً
أسود فلم يكن مضى على رحيل أمي سوى ثلاثة أسابيع.
دلفت بوابة الدخول إلى حرم
الجامعة. أوقف السيارة كالمعتاد منذ أكثر من ثلاثين سنة، في أي مكان خالٍ أمام
مباني كلية الآداب أو كلية الحقوق.
سرت باتجاه قصر الزعفران، مقر
إدارة الجامعة، وتحديداً مقر رئيس الجامعة ونوابه. أمام المبنى التقيت ببعض
الزملاء ثم توافد البعض الآخر من أساتذة جامعتي القاهرة وعين شمس. لم يكن عددنا
يزيد على العشرة، وكنا نحمل معنا نص حكم المحكمة الإدارية العليا برفض الطعن
المقدم من رئيس الوزراء ووزيري التعليم والداخلية على حكم سابق بإنشاء وحدات للأمن
الجامعي لا تتبع وزارة الداخلية، بل تتبع إدارة الجامعة. تقدم الدكتور عبدالجليل
مصطفى من الضباط وأعطاهم نسخة من قرار المحكمة وبيان مجموعة استقلال الجامعة. ثم
حملنا أوراقنا وبدأنا جولتنا في الجامعة، يحيط بنا مجموعة من الطلاب المساندين
لنا، ويتبعنا بعض رجال الأمن بملابس ميدانية.
وعندما وصلنا إلى المساحة الفاصلة
بين كلية الحقوق وكلية الآداب، ظهر أول ما ظهر شاب قصير عريض الكتفين، يرتدي
تيشيرت أصفر. استوقفتني هيئته قبل أن يقترب، ربما لعرج واضح في مشيته، اقترب من
الشاب وانتزع بعض ما أحمله من أوراق وهو يصيح بصوت عالٍ: إيه ده، إيه ده؟
منشورات؟!، وأنا ربما لأنني أرتدي ثوب الحداد على أخي ووالدتي، لا رصيد لدي من
العدوانية، أو لأن عرج الولد جعلني أشفق عليه، قلت: يا ابني يا حبيبي، اطلب نسخة
أعطيك واحدة، رمقني بنظرة حادة، يقصد أن تكون مخيفة، ثم راح يمزق الأوراق التي
أنتزعها مني وهو يواصل التحديق فيّ.
وهنا ظهرت الدكتور عايدة سيف
الدولة وسمعتها تصيح: "ده غريب صوروه، صوروه .. "
ولن أفهم إلا لاحقاً أن غريب هو
الذي قام مع زملاء له بضرب الطلاب بالجنازير والسلاح الأبيض قبل ذلك بأربعة أعوام
في كلية التجارة.
ذهبت إلى ضابط الأمن الواقف بزيه
الرسمي على بعد خطوات، مشرفاً بهدوء على ما يجري. قلت له: هؤلاء بلطجية تعدوا على
الأساتذة، وأنت تقف متفرجاً. ابتسم وقال: ألا تطالبون بمغادرتنا الجامعة، لماذا
نتدخل؟!
وسط هذه الدراما المتشابكة،
الهزلي منها والحزين، كانت تدور دراما أخرى، لا على خشبة المسرح أو في المشهد
السياسي، بل في رأسي، أعني الرأس المكون من مخ وأعصاب وأنسجة وعظم وجلد.
تورم مزعج خلف أذني اليمنى، يبدأ
بحجم حبة اللوز، ثم يكبر، نستأصله، يعاود الظهور بعد عامين أو ثلاثة، هذا هو الحال
منذ ثلاثين عاماً.
منذ طفولتي وأنا أوصف بالمطيورة.
في المرحلة الابتدائية كانت هذه الملحوظة تتكرر في الشهادة الشهرية، مضافاً إليها
في الغالب أنني ثرثارة.
أنسى أشيائي في المدرسة، أصطدم
بهذا الشيء أو ذاك: باب، حائط، عامود إنارة.
أما أن أترك شيئاً وكأنه لا يخصني
وأذهب في أمان الله، فلا حصر لوقائعه: أنسى حقيبة كتبي أو سترتي الصوفية في أتوبيس
المدرسة، أترك محفظتي تراود من يستجيب لها، أنسى حقيبة يدي في المطار..
يوم الأحد اليوم التالي لخروجي من
المستشفى. سيقول لي تميم عبارة مقتضبة: هناك مظاهرات حاشدة في تونس. لم يزد، ربما
لأنه لم يرغب في نقل أية تفاصيل بسبب وضعي الصحي.
لن أرى صور البوعزيزي وهو يشعل
النار في نفسه إلا بعد أسابيع في تسجيل منشور على اليوتيوب. وعبر اليوتيوب أيضاً
سأشاهد الكهل الذي يقول: هذه فرصتكم أيها الشباب التونسي، تستطيعون أن تقدموا
لتونس ما لم نقدم لها نحن...
يكرر: "هرمنا من أجل هذه
اللحظة التاريخية". كان وجه الرجل وشعره وكلامه يرد لي صورتي وينطق بلساني،
أنا رضوى بنت ميّة ومصطفى، المرأة الستينية التي هرمت من أجل لحظة من هذا النوع.
الغريب أنني لم أبكِ.
أغطي رأسي بقبعة صوفية أو منديل
كبير يخفي الضماد المثبت على الجرح، وأخرج مع تميم ومريد في جولات سياحية غالباً
ما تنتهي بالعشاء في مطعم. أو يذهب تميم إلى جامعته ونبقى أنا ومريد في البيت،
نتابع الأخبار أو نقرأ، عندما يعود تميم نجلس إلى المائد الزجاجية في المطبخ نأكل
ونثرثر أو نستمع لما يحمله من مستجدات في القسم أو أخبار نقلها له سين أو صاد.
لا أفكر في أمر المرض، لأن
التفكير فيه قد يفتح علي باباً آخر أحاول أن أبقيه موصداً، لا لأنني أخترت البلادة
أو صرف النظر أو خداع النفس، بل لأنني وأنا محاصرة بين جراحة تمت وجراحة على وشك، ومستقبل
معلق على احتمالات متفاوتة قد يكون الموت أبسطها، لا أملك سوى تسليم أمري لله
ومواصلة الحياة بعادية.
الشباب في مصر أسموا اليوم
"يوم الغضب". وبعض المواقع أشارت إلى ثورة. وبدا غريباً أنها ثورة أعلن
موعدها على الملأ ونشر على الموقع الإلكتروني مسبقاً مع دعوة للناس للمشاركة.
مريد وتميم قلقان من آمال عريضة
لا يتمخض عنها سوى خروج بضعة آلاف. وأنا لا أدري. صادقة لم أكن قادرة على توقع أي
شيء.
حين غادرت فراشي صباح 25 يناير
وجدت تميم مستيقظاً، كان يجلس بجوار أبيه، أمام كمبيوتره. صاحا في صوت واحد متهلل:
حصل!
ستشكل الثورة بمجرياتها، وأسماء
شهدائها، وردود فعل النظام عليها والمواقف الدولية منها، جدولنا اليومي. نتابع
الأخبار عبر الكمبيوتر. والقنوات المتاحة: السي إن إن، فرانس 24، ونتصل بالأهل
والأصدقاء لنعرف المزيد من التفاصيل.
تميم يبدأ في كتابة قصيدة
بالعامية المصرية يوم 25 ليلاً، يكملها وينقحها في اليوم التالي، ثم في اليوم الذي
يليه؛ يقرؤها على قناة الجزيرة مباشر من مكتبها في واشنطن. قبل أن يغادر البيت،
قلت له: يا تميم احذف الأبيات الثلاثة لتي تقول فيها: "واللي هايقعد في بيته بعدها
خاين/ اللي هايقعد كأنه سلم التانيين/ للأمن بإيديه وقال له همه ساكنين فين"
صعب أن تدين الناس بهذه السهولة. رفض حذف الأبيات. اتجه إلى مكتب الجزيرة وقرأ
القصيدة كما أراد.
الغريب أنني حين عدت إلى القاهرة
علمت من أكثر من صديق وصديقة أن هذه الأبيات تحديداً جعلتهم وجعلت آخرين من
معارفهم يحسمون أمرهم وينزلون إلى الميدان. وكانت هذه المعلومة درساً جديداَ
ينبهني أنني امرأة ستينية، لا تملك بالضرورة حكمة شباب يشاركون في الثورة، بعضهم
في سن أولادها وبعضهم الآخر يمكن أن يكون من أحفادها.
حاولت الكتابة أكثر من مرة، وعلى
الكمبيوتر أكثر من مسودة لمقالات أتممتها أو بدأتها في تلك الفترة، ولم أكملها.
أولها مقال بعنوان "مبارك يحرق مصر قبل أن يرحل".
وبعد عام كامل، في أعقاب مذبحة
استاد بورسعيد، كتبت عن الألتراس. لم أتم المقال.
نعم كنت خائفة من الكتابة. أو
خائفة من اكتشاف أنني غير قادرة عليها، أو ربما كان جسدي الأحدّ ذاكرة من وعيي،
مضطرباً ما زال من تلك المشارط التي راحت تقطع فيه من هنا وهناك.
كانت المقالات أضعف مما يقبل به
عقلي الأكثر استيعاباً للحدث، باختصار أكتب ما لا يرضيني، وما يرضيني يفوق قدرتي
على الكتابة في تلك اللحظة.
بعد عودتي لمصر نزلت إلى الميدان
مرات عديدة. أدهن الجزء المجروح من رأسي بمرهم، وأعتمر زيادة في الحرص قبعة كبيرة
نسبياً، أحمل علماً تفوقني ساريته طولاً، وأنزل الميدان.
في التحرير مليونية، أي مئات
الآلاف من المتظاهرين، وفي أيم بعينها يتجاوزون المليون، وفيه أعلام مرفرفة صغيرة
وكبيرة في أيدي الناس وأيدي الباعة، وفيه لافتات ورقية ورسوم جرافيتي على الجدران،
وباعة متجولون ونصبا لبيع الشاي والقهوة.
وفي المليونيات يصبح شارع طلعت
حرب وشارع التحرير وشارع محمد محمود، مساحات ملحقة بالميدان، تفيض بالمتظاهرين.
نشق طريقنا بصعوبة في شارع طلعت
حرب، يتوقف تميم فجأة ويقول لي: من هنا. ندخل بناية فيحملنا المصعد إلى الطابق
التاسع. لا ندق الجرس، باب الشقة مردود. يجلس بيير إلى مكتب إلى يسار الداخل، عليه
جهاز كمبيوتر، شعرت بحرج لدخولي البيت بلا سابق معرفة. عرفني تميم على بيير، تصافحنا،
ثم قالت نوارة "نجم" ببساطة: جئنا لنرى الميدان من الشرفة. قال: تفضلوا.
خرجنا إلى الشرفة. لم أكن بحاجة
إلى أن أطل منها لأرى المشهد. كان ممتداً أمامي على مدى البصر، سواءً تطلعت لأسفل
أو اكتفيت بالنظر أمامي.
سأرى المشهد من شرفة بيير مرتين،
أطل عليه من الطابق التاسع. وسأكون فيه ضمن تفاصيله عشرات المرات. أقف أو أمشي أو
أهتف أو أحمل علماً أو يمد لي شاب يده: هاتِ إيدك يا ماما، يعاونني على صعود رصيف
عالٍ.
أقف على الصينية وأسمع طبول
الألتراس وهتافاتهم قبل أن أراهم ثم أرى جموعهم تقترب وتتقافز وهي تهتف. أتابعهم
من موقعي على الصينية المرتفعة قليلاً عن أرضية الميدان. يفاجئني السؤال: هل
تتفرجين يا رضوى؟ يملؤني الخجل. أهتف معهم بصوت عالٍ فأعلى، ربما شعور بالذنب
لأنني كنت فعلاً أتفرج.
نادراً ما استخدم كلمات نابية،
ولا أرتاح حين يستخدمها غيري، ولكنني، إذا انصت لهتافات الألتراس أستغرب لارتياحي،
بل تقتضي الدقة الإفصاح عن طرب أشعر به حتى عندما يهتفون في المدرجات وخارج
المدرجات بهتافات بذيئة منغمة، مغناة تقريباً.
أطرب لسماعهم لا كصغير يثيره
الممنوع، بل كراشدة تقرّ وتعترف أن الصفاقة لا تكمن في هتافاتهم بل في الفعل
المتجبر لسلطة فاجرة في سياستها وسلوكها.
قبل الثورة كثيراً ما كنت أكرر أن
حكام مصر، أعني مبارك ورجاله، ليسوا كالملك فاروق، حين أعلموا الملك فاروق في قصر
رأس التين في الإسكندرية، أن الشعب لا يريده، وقع الملك في هدوء على وثيقة تنازله
عن العرش. ورأيناه في "الأفلام التسجيلية، وفيما دونه المؤرخون" يمشي في
هدوء ليركب "المحروسة" لتحمله إلى منفاه في إيطاليا. لم يُدر الملك من
منفاه الخطط المركبة لاستعادة عرش مصر أو حرقها على رؤوس الضباط الذين استولوا
عليها. استكان لقدره وواصل حياته.
منذ سنين وأنا أكرر: ليسوا
كالملك، لن يتركوا كراسيهم إلا بدم كثير.
وبدا لي وأنا أتابع مجريات الثورة
من بعيد، أنني على حق، خاصة حين غدا واضحاً أن النظام لم يقبل بسقوطه الفعلي. مع
نهاية الـ28 من يناير، فأعلن حظر التجول متحججاً كما ورد في البيان بـ"أعمال
النهب والتدمير والحرق والاعتداء على الممتلكات الخاصة".
بعد البيان مباشرة انسحب الأمن
وبدأ الحرق والنهب، حتى إن بعض شباب التحرير انتقل لحماية المتحف المصري واستغاث
من محاولة لاقتحامه، وفتحت أبواب السجون ... الخ
حين عادت لي قدرتي على التفكير
الرائق بعد جراحات ثلاث متعاقبة، قلت لنفسي: كنتِ على خطأ. ذهبوا دون ما تخيلتِه
من دم، لا لأنهم أقل سوءاً مما تصورتِ، بل لأن الثوار قدموا حلولاً عبقرية
واستطاعوا بأعدادهم واحتشاد كل طاقاتهم المادية والثقافية، ودهائهم وخفة روحهم أن
يحققوا ما أرادوا بالحد الأدنى من الدماء.
تدريجياً وببطء وعلى مدى شهور
لاحقة جاوزن العام، سأعيد النظر في قناعتي المستجدة وأعود إلى فكرتي القديمة، وإن
كان السياق الذي تمت في إطاره فاق خيالي. خطة جهنمية، لا أتحرج من وصفها
بالمؤامرة.
(مقال قصير عن الكتابة)
الكتابة فعل أناني وطارد يفرض
درجة من العزلة الداخلية، ينفيك عمن حولك أو ينفي من حولك، يضعهم على الرف إلى
حين، لأنك حتى وإن كنت تجلس معهم، تشاركهم الأكل أو الكلام، فأنت في مكان آخر
منشغل به ومأخوذ. نعم الكتابة فعل أناني وطارد.
ينفيهم ليكتب حكايتهم. يُقصيهم
ليراهم أكثر. يبتعد ليقترب، ويعزلك ليتيح لك تبديد وجودك المفرد وإذابته في وجودهم
ومكانهم وزمانهم، عجيب!
أنا مُدرسة، أرى في رسائل التشاؤم
فعلاً غير أخلاقي. قلت ذات مرة إن كل كتاباتي الروائية محاولة للتعامل مع الهزيمة.
قلت: الكتابة محاولة لاستعادة إرادة منفية. انهيت رواية "ثلاثية غرناطة"
بعبارة: "لا وحشة في قبر مريمة".
في نهاية المحاضرة قلت: "غرناطة
ليست فقط حكاية موت واندثار، غرناطة حياة، بستان من المعاني المكنونة في باطن
الأرض نذهب إليه عبر الحكاية. والمدهش أن الحكايات التي تنتهي، لا تنتهي ما دامت
قابلة لأن تروى".