السبت، 31 أغسطس 2013

كتاب استرداد عمر من السيرة إلى المسيرة






 

استرداد عمر، من السيرة إلى المسيرة، د. أحمد خيري العمري

دار النشر: القرآن من أجل أمة قائمة، المركز الطبي الدولي.

 

آن لنا أن نُخرج عمر بن الخطاب من خانة كتب السيرة على رفوف المكتبة إلى مسيرتنا اليومية إلى حياتنا، آن لنا أن نُخرج فهم عمر بن الخطاب للقرآن والسنة النبوية من كتب التاريخ إلى التطبيق العملي.. نحتاج إلى فهم

عمر تحديداً في هذه المرحلة، كي نكون ما يجب أن نكونه.

هذا ليس كتاباً في السيرة أو التاريخ إنه كتاب في المسيرة نحو المستقبل.

 

سيرة عمر، هي بطريقة ما قصة الحضارة وتحولاتها، لو قرأنا سيرته لوجدنا أنفسنا نقرأ خلاصة ما كتبه ابن خلدون وول ديرانت..

 

لابد أن تكون هناك حكمة في أن تكون الحضارة قد ارتفع بناؤها على يدي عمر، وليس على يدي الرسول عليه الصلاة والسلام.. نعم هناك حكمة أكيدة..

لو أن الحضارة ارتفعت على يديه عليه الصلاة والسلام وبوجوده الشخصي لكنا تصورنا جميعاً أنها أشبه بالمعجزة، لأنها ارتبطت به، وبالتالي لا يمكن لنا أن نواصل بناءها أو إعادة بنائها أو استلهامها.

 

عمر قبل إسلامه، كان مؤمناً للحد الأقصى بما آمن به آباؤه، لم يكن من أثرياء مكة الذين خافوا على تجارتهم - مثلا - من أن تخسر بسبب الدين الجديد الذي سيزيح أوثان العرب، كان عداؤه للإسلام نابعاً من موقف، كان مسألة مبدأ، جعله محوراً لحياته..

 

كان عمر يحمل صفة الإيمان بالقضية حتى النخاع، ولقد ميزها الرسول عليه الصلاة والسلام فيه، وعرف أي عز للإسلام سيكون بعمر..

إنني أزعم أن هذه الصفة بالذات صفة الثبات على المبدأ، كانت سبباً في تحولات عمر في مخاضه الجليل.

 

مر عمر أثناء فترة تردده وحيرته بمفترقات طرق حادة، لم يمر عليها بالخوض مع الخائضين، بل مر بها بصخب، كانت شدته وقسوته على أتباع الدين الجديد تدل على شدة تمسكه بخياره الخاطئ، وربما تعكس أيضاً حيرته وشكه في صواب خياره.

ماذا قالت سورة طه لعمر؟

(ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)، وكان الشقاء رفيقه منذ أن فارقته طمأنينة الثبات، وربما قبل ذلك.

 

تركت فيه الآيات الكريمة أكثر بكثير من مجرد الانفعال العاطفي القوي، تركت فيه ما سيحدد مساره في صنع الحضارة وما سيحدد علاقته مع التجارب الحضارية الأخرى ورؤيته للعالم.

كل ولادة تحدث عبرالقرآن  يمكنها أن تحدث ذلك الأثر في مولودها.

 

منذ اللحظة الأولى لإسلامه قرر عمر أن يُحدث فرقاً، أن يُحدث عزاً، أن يجهر بالإسلام، بعدما كان سراً يُخفيه أصحابه..

انطلق عمر ليجهر بالشهادة في شوارع مكة ومجالسها. كان عمر بهذا هو مشعل أول ربيع عربي!

 

لكنه كان ربيعاً يتجاوز أمر العرب إلى الإنسانية جمعاء، وإن اتخذ من مكة وشوارعها موقعاً.


قريش تزلزلت بإسلام عمر، أدركت أن الأمر قد بدأ يخرج عن السيطرة، وصارت تبحث عن وسيلة لاحتواء الدين الجديد للتعايش معه..

أغلب المهاجرين هاجروا سراً، لكن عمر لم يحتمل ذلك.. لم يشأ أن يعتقد أحد من مشركي مكة أنه يهرد منهم سراً، ما كان ليفعلها وهو كافر، ما كان ليرضاها على نفسه وهو كافر.. أفيرضاها الآن وقد زاده الإسلام عزة ومنعة وقوة؟

كان عقل عمر الذي تشبع بآيات القرآن وأحاديثه عليه الصلاة والسلام يعمل طيلة الوقت في تحليل سلوكيات من حوله ورصدهم لا لمراقبتهم، ولكن للحذر على الجبهة الداخلية من مخاطرهم  وشرورهم، في مرتين قال عمر جملة: "لأضربن عنق هذا المنافق"

مستأذناً الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يقتل من تأكد لعمر نفاقه.

عقل عمر بن الخطاب تعامل مع القرآن، كما لو كان "نظاماً للتشغيل" أعاد برمجة عقله. بل قام بمسح كل شيء سابق للقرآن، وقام بتنصيب القرآن نظاماً واحداً للتشغيل، وحذف كل ما يمكن أن يتعارض مع نظام التشغيل هذا أو يشوش عليه.

يذهب عمر ليقول شيئاً يعتقد أنه الصواب، وقد يكون رأي عمر مخالفاً لما يراه عليه الصلاة والسلام، أو ما يراه بقية الصحابة ثم يأتي خبر السماء بوحي مُنزل بآيات قرآنية صريحة يوافق فيها رأي عمر الذي ربما كان يبدو بعيداً عن الأخذ به لحظة قاله.

أن الموافقات العمرية، وهي أمر مفروغ منه من ناحية الصحة، تُظهر لنا أن العقل البشري عندما يلتزم بنظام تشغيل محدد يمكن له أن يُبدع إلى أقصى حدود الإبداع.

عمر لم ينس الموت يوماً، ولم يتجاهله أو يؤجل مواجهته، لم ينس موته هو، بل كان حاضراً معه في كل عمله، لكنه نسي أن الموت قد يأتي لأحبائه قبل أن يأتيه هو.

بالنسبة لعمر، كان الوحي النازل على محمد هو محور حياته، به يرى العالم، به يتفاعل، ومن خلاله يتفاعل مع كل ما حوله هكذا كان يتلقف الوحي كما يتنفس أي منا الهواء، ولم يكن محمد عليه الصلاة والسلام مجرد معبر لهذا الوحي، بل كان أيضاً يمثل شخصية إنسانية تطبق هذا الوحي وتوضحه، كان يمثل امتدادا بشريا للوحي فهل يعقل أن يأتي في باله أن ذلك كله ممكن أن ينتهي.

العلاقة بين أبي بكر وعمر كانت قائمة على التنافس في الخير الذي تحول مع الوقت ليصير تكاملاً نادراً. نموذجاً إيجابيا لما يمكن أن تكون عليه العلاقة بين شخصيتين قياديتين فذتين، تمتلك من الفضائل الشخصية والصفات القيادية ما يؤهلها للتفرد.

لكنهما معاً - أبي بكر وعمر - يصيران أفضل، أكمل.. مما لو كان كل منهما مُنفرداً..

اتضح هذا الموقف تماماً في وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، رباطة جأش أبي بكر أعادت عمر إلى الواقع، أخرجته من الصدمة وحسم عمر، فصل خطابه عبر بأمر الخلافة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى بر الأمان..

لكل منهما فضله ومكانته، لكن هناك غير السبق شيء ما في أبي بكر الصديق جعله يكون الأنسب ليكون "الخليفة الأول".

منجزات أبي بكر في خلافته وقبلها مهمة حتماً، وليس هنا مجال تعدادها، لكن علينا أن نزيدها واحدة، لا تقل أبداً عن سواها إن لم تفقها.. إنها توليته الخلافة لعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - من بعده.

الساسة يجمعون الناس من حولهم من أجل أصواتٍ في موسم انتخابي أو بعص التهليل والدعم، أو للوجاهة، لكن بناة النهضة يصنعون الإنسان أولاً.. يصنعونه أولاً بصدقهم معه.

كان عمر قد تجاوز في النفير العام موضوع الترغيب والإقناع، ووصل إلى حد التجنيد الإلزامي (وهو أول من شرّع ذلك في الدولة الإسلامية) وهنا قال عمر قولته الشهيرة: والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب.. هل كان للعرب ملوك! لا قطعاً لم يكن للعرب ملوك، لكنه كان يقصد هذا الإنسان الجديد الذي ولد في مل مسلم، الإنسان الممتلئ عزة وقوة كما لو كان ملكا متوجا على عرشه.

ما ترك الحق لعمر صاحباً مرحلياً، لكنه في المحصلة النهائية: جعله الأكثر تأثيراً، وجعل الناس تحبه عبر العصور ربما أكثر مما فعلت مع أي خليفة أو حاكم آخر.. وربما بفارقٍ كبير. وربما لو أنه حرص على أن يحبه الناس أكثر من حرصه على الحق - الذي ما ترك له صاحباً - لما حدث ذلك .. لما كان عُمر!

كان عمر متابعاً دقيقاً لا لما يدور فحسب بل لما لم يحدث بعد، نعرف مقدرته الفذة على توقع الأزمة قبل حدوثها، ورغبته في السير للعراق قبل توليته سعداً لذا فقد حرص على أن يكتب له سعد كتباً مفصلة كل يوم، كان ذلك في عصر لا بريد إلكترونياً فيه ولا مؤتمرات عبر الفيديو ولو كان لما تركها عمر ثانية واحدة، كان عمر قد فتح خطاً ساخناً بكتاب كل يوم ينقل له فيه سعد كل التفاصيل... كلها من العراق إلى المدينة.

كان عمر يلح في الطلب، يريد المزيد من الوصف، من التفاصيل، كان يريد أن يكون في المشهد، كي ينظر عبره ويرى ما يجب عمله..

أحياناً ننسى أن الله ينصر عباده الذين ينصرونه، أي أن التدخل الإلهي مشروط وليس مطلقاً، وننسى أن نصر العباد لله يكون أولاً باتباع أوامره واجتناب نواهيه.. وأوامره تشمل ضمن ما تشمل "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل"، فالنصر الإلهي يكون مشروطاً بجملة شروط من ضمنها العمل على شروط النصر، والإعداد والتخطيط له..

كان مدداً يذكرهم بأن كلاً منهم يمكن أن يصير عدة رجال، وأن ذلك كله سيكون من اليسر الإلهي، وأنه سيغير معادلة الكثرة.

لم يكن الروم يتعاملون مع الناس، مع العالم من حولهم، كما ينبغي حتى بحسب الأناجيل التي بين أيديهم..

كانت الرموز الدينية موجودة في جيوشهم وقصورهم ومراسلاتهم وكل ما يصدر عنهم، لكن الدين لم يكن لا في حضارتهم ولا في دولتهم لو حذفنا الرموز الدينية "التعريفية" لما عرفنا أنهم ينتمون لمنظومة كتابية أصلاً! (هل يذكرنا هذا الشيء بأحدٍ نعرفه..؟)

وهكذا فإن الروم في النهاية كانوا يشبهون الفرس، وهرقل يشبه كسرى، وكذلك ربما يمكن أن نضيف للقائمة الكثير من القادة والزعماء.

في بعض المراحل سنكون "نحن" أيضاً في القائمة، وشخصيات تنتسب إلى الإسلام لكنها مثل هرقل استخدمت رموزاً إسلامية لكن سلوكها كان مفرغاً من أية قيمٍ على الإطلاق.

حضارة الإسلام كما نكتشفها عبر رد فعل المسلمين من دخولهم على قادة الروم والفرس، تتمثل في ذلك الاشمئزاز الذي يشعرون به أمام قلة قيمة الإنسان وتضاؤله أمام زيادة المظاهر والبهرجة، بالذات في علاقة ذلك بالاستعباد الذي يسود فيما بينهم كبشر.

مشروع الفتح الذي حمله المسلمون منذ اليوم الأول كان مشروعاً قد بُني على الإسلام، لذا كان لابد لهم - ولمن يقابلهم من الوفود في المقابل - أن يُصاب كل منهم بنوع من الصدمة الحضارية للتناقض الذي يحمله كل منهم في المعايير ألم تصبح هذه المظاهر هي مقياس البعض لكل تطور حضاري؟ ألا يشير ذلك لشيء ما، لتراجعنا عن إسلامنا وقيمه رغم حرصنا على الشعائر.

كانت الرمادة جوعاً شديدا أصاب الناس في الجزيرة العربية، لانقطاع المطر.. احتشد الناس على أطراف المدينة يطلبون العون وجد عمر نفسه في مواجهة مجاعة وفاقة كبيرتين، عامل المسؤولية الإنسانية في هذا الجفاف، كان أكثر ما يخيف عمر، أي أن يكون هذا الجفاف قد نزل نتيجة لفعل إنساني، يخشى أن يكون قد فعله هو وتُعاقب به الأمة كلها.. كان الاستغفار ومواجهة الذات بتقصيرها جزءا أساسياً من استراتيجية إدارة الأزمة والكارثة، لكنه لم يكن كل شيء.

كل مواقف عمر الفقهية كانت تسند المرأة وتساهم في مساعدتها على التحول من نموذج المتعة إلى المرأة الفاعلة، يشعرها بكيانها...

كان عمر الذي وافقه القرآن في أمر الحجاب، يرى في الالتزام بالحجاب علامة على الحرية، على كون المرأة حرة وصاحبة قرارها وإرادتها، لهذا كان ينهى الإماء عن لبس الجلباب، ومن تعتق من الإماء يمكنها أن ترتدي ثياب الحرية بالضبط عكس ما يفهم اليوم.

ولأن عمر كان يعي دور المرأة في تشكيل وتربية أبنائها، فقد كان لا يحبذ الزواج من الكتابيات رغم عدم وجود تحريم أو نص يمنعه.

كان من نتاج دعم عمر للمرأة الأخرى، أنه ولى نموذجاً من هذه المرأة الفاعلة القوية، ولاها منصباً يمكن أن يكون بمثابة منصب وزير في مسمياتنا اليوم.. إنها الشفاء، أول وزيرة في الإسلام.. ولاها عمر!

(عن عمر قال: إن الدين ليس بالطنطنة من آخر الليل، ولكن الدين الورع) من يقول ذلك هو عمر، الذي لم يكن يفوت ليلة واحدة دون أن يقومها، قيامه للّيل كان مليئاً بالأسرار، حتى أن عثمان بن أبي العاص قد تزوج إحدى زوجاته بعد وفاته لا لشيء إلا فقط ليعرف "السر" في ليل عمر.

ما الذي جعله يقول: "ليس الدين بالطنطة من آخر الليل"، أليس هذا ما يقوله غالباً المفرطون؟ لكن عمر على ما يبدو قد رأى من بعض من يقومون بالصلاة وبالشعائر ما لم يجعله يقلل من شأنها وشأن الالتزام بها، ولكن جعلته ينظر إليها من منظور أوسع، منظور فاعليتها وتأثيرها، من كونها تمتد لتكون موجودة وفاعلة طيلة الوقت، وليس فقط في وقت الصلاة.

إذا ذكر عمر، ذكر العدل! هذه هي الصفة الأساسية التي عرفت عن عمر، وارتبطت به في ذاكرة الأجيال عبر العصور..

كان أول ما ينهى عن شيء يجمع أهل بيته، وكل من يمكن أن يحسب عليه، ليس من باب أنهم قدوة، بل لأن الناس تراقبهم، لذا سيضاعف لهم العقوبة التي أقرها على الناس إن هم أتوا ما نهى عنه.. حسناً قد يقولها بعض القادة، لكن الفرق أن عمر يفعلها..!

بالنسبة لعمر كان العدل تحصيلاً حاصلاً، لم يكن عملاً متعمداً، كان جزءا من التزامه بما آمن به، جزءا من بديهيات إسلامه..

في كل ما كان يفعله وكل ما أدخله التاريخ، كان هناك دوماً الإيمان بالقرآن والسنة دافعاً، ضابطاً لهذا العدل العمريّ..

كان عمر إنساناً صُنع في القرآن وبالقرآن، هذا هو عمر الذي نريد استرداده، ليس الشخص، بل حقيقة أن هذا ممكن حدوثه مع بشر عادي.

حقيقة أننا يمكن أن نعيد تشكيل عقولنا وطريقة فهمنا ورؤيتنا بحيث نصبح ولو جزءا يسيراً مما صار..








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق