الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

كتاب مذكرات الأرقش

مذكرات الأرقش
ميخائيل نعيمة
136صفحة
دار النشر: نوفل
من هو الأرقش؟
رجل غريب الأطوار، عمل خادماً في مقهى عربي في نيويورك، ميّزه صمته الذي أدهش
كل من حوله، رحل فجأة كما أتى فجأة، وترك خلفه مذكراته..
سُميّ بالأرقش، لآثار الجدري على وجهه، أما اسمه الحقيقي فلا يعرفه أحد.
طريقة الأرقش في تدوين مذكراته كانت بذكر أيام الأسبوع لا غير دون تاريخ اليوم والشهر والسنة..
الناس قسمان: متكلمون وساكتون.
أنا قسم الإنسانية الساكت. وما بقي فمتكلمون.
ختمت على فمي بيدي، وقد أدركت حلاوة السكوت ولم يُدرك المتكلمون مرارة الكلام. لذلك سكت والناس يتكلمون.
الصدق بالنيات لا بالبيان. والنيات يحجبها البيان. لذلك كان الناس في عذاب مستمر، وقد اختلط عليهم صادقهم وكاذبهم. أما أنا قسم الإنسانية الساكت، فكيف أكذب؟
إنما تكذب النية الصالحة ببيانها الفاسد، وتكذب النية الفاسدة ببيانها الذي يقلد الصدق.
الكلام مزيج من الصدق والكذب. أما السكوت فصدق لا غش فيه.
لم يكد شين يفتح الباب – يعني صاحب المقهى – صباحاً ويراني حتى انهال عليّ بالتقريع والشتائم: أين كنت مقبوراً البارحة يا أرقش النحس؟
وبماذا أجيبه؟ هل أقول له – ولا هم له في الحياة إلا نقل المال من جيوب الغير إلى جيبه – إني كنت أرقب النجوم؟
وكيف لي أن أُفهمه أن مسامرة النجوم والأمواج أجدى من طبخ القهوة وتقديمها للزبائن وقبض الفلوس منهم؟
قناعة الجسد فضيلة. أما قناعة الروح فجريمة.
من طبيعة الإنسان إنكار ما يجهل. فعلام لا يُنكر نفسه؟
ومن جهل الإنسان أنه يسعى إلى المعرفة بحواسه الخارجية لا غير. وحواسه الخارجية لا تتعدى ظواهر الأمور، وهي محصورة  ومحدودة، فكل ما تتناوله محصور ومحدود. وهي خداعة، فكل ما تحسه خداع. أما الحواس التي لا تستند إلى عينين وأذنين ويدين ولسان فهي في عُرف الناس أوهام وأضغاث أحلام. ولو قلت لأحدهم إن له عيناً باطنية، وأذناً ليست من لحم ودم، وإنه بالتأمل والسكوت يُبصر ما لا تبصره العين ويسمع ما لا تسمعه الأذن، لو قلت له ذلك لرماك بالطيش والجنون.
وكيف لمن يُبصر ما لا يُبصره الناس ويسمع ما لا يسمعونه إلا أن يكون مجنوناً في عُرف الناس؟
كثرةُ الكلام ملهاةٌ للفكر.
الناس يدعون المكان الذي يولدون فيه "وطناً". وهذه الكلمة مقدسة في عُرفهم. فهم يذرفون الدمع لفراق أوطانهم ويذوبون حنيناً إليها. ولماذا؟ لأنهم ألفوها. فالوطن ليس أكثرُ من عادة. والبشر عبيد عاداتهم. ولأنهم عبيد عاداتهم تراهم قسموا الأرض إلى مناطق صغيرة يدعونها أوطانهم.
لعلّ أكره ما يكرهه الناس الحرب، فهي في نظرهم شر عظيم، ولكنه شر لا مناص منه، وهي شر في اعتقادهم لكثرة ما يُهرق فيها من الدماء وما يُدمر من المساكن ويُتلف من الخيرات، ثم لكثرة ما تُسببه من الآلام للمحاربين وغير المحاربين بالسواء. و يا ليت شرها اقتصر على ذلك لا غير. لكن شر الحرب الأكبر هو في قتلها الروح قبل الجسد؛ بتحويلها قوى الإنسان عن عدو في نفسه إلى عدو خارج عنه، وما من عدو للإنسان غير نفسه.
ما عرفت بعد إنساناً إذا نزلت به نازلة لام نفسه لا غير. وكلهم يلوم إما الله، وإما الظروف، وإما الناس، وقد يلومهم جميعاً.
هنالك بعض الذين يدعون التقوى، والذين إذا حلّت بهم مصيبة قالوا: هي تجربة من الله، وقد فاتهم وفات جميع الناس أن الله مُعلّم لا مُجرّب، فلا يُجرب إلا الذي يجهل نتيجة التجربة.
إن مثالة واحدة يُتقنها الإنسان، كأن يفهم أن المال لا يصلح ركناً للحياة، أو أن أعماله ترتدُ إليه، لجديرة بِعُمرٍ كامل يحياه الإنسان على الأرض، من فَهِم مثالة أصبح في غِنىً عنها فانصرف إلى سواها.
إن أوسع اللُغات وأجملها وأبسطها، تلك هي لغة الأفكار والقلوب، أما لغة الشفاه والألسنة فسُلّم يصعد به البشر إلى لغة الأفكار والقلوب.
"مُعترك الحياة"
كلمتان ما أكثر ما تُرددهما ألسنة الناس وأقلامهم. تسمعها الأذن، أو تمر بهما العين، فتبعثان في النفس قلقاً وذُعراً وقشعريرة، ويُخيلُ إليك أن الكون ساحة وغى وأن كل ما في الكون ومن فيه قد اشتبكوا في صراعٍ عنيف، دامً لا رحمة فيه ولا هوادة. فالكل يُحارب الكل في سبيل ما يراه حقاً حلالاً له وحراماً على سواه، ثم ينتهي الكل إلى حدٍ واحد – إلى الموت.
إنه لمُعترك الموت، فما شأن الحياة منه؟ ومتى كانت الحياةُ عِراكاً؟

الزائل لا يدوم، والدائم لا يزول. فما هو الدائم في كون كله للزوال؟ إنه الزوال بعينه. أنقول إن الحياة زوال؟ بل هي ديمومة الزوال. هي القدرة التي تُزيل ولا تزول. فليعلم المعتركون.
أي قاضٍ مُبصر وفهيم وعادل هو القضاء!
فما من شيء في المسكونة، مهما صغر أو كبر، إلا يمثل لديه في كل لحظة من وجوده فلا ينال منه إلا العدل كل العدل. يا لذاكرة القضاء ما أوسعها وأدقها، ويا لعينه ما أصفاها وأنفذها. كل ما فكرت في القضاء باركت الحياة أمُّ القضاء، وقلت لعقلي: اتئد واتعظ. فيا ليت قُضاة الناس يتئدون ويتعظون.
يساورني اليوم شعور ما أذكر أن عرفته من قبل، ولعله الحزن، فكأن قلبي غير قلبي، ودمي غير دمي، وحركاتي وأنفاسي غير حركاتي وأنفاسي، ففي كلها انكماش وارتعاش وفتور. وكأن الأذن ملّت السماع، والعين ملّ البصر، أو كأنهما تخشيان أن تسمع الواحدة وتُبصر الأخرى غير ما تشتهيان، بل عكس ما تشتهيان.
لقد نبهني الحزن هذا إلى نقيضه الفرح، وأنا ما أذكر أنني فرحت يوماً كما يفرح الناس. أتُراني كنت حتى اليوم فوق الحزن والفرح، أو دون ذاك وهذا؟ فماذا دهاني اليوم؟
استفق يا أرقش استفق، إنك لفي سبات، أفما عرفت بعد أن الحزن والفرح لواهي القلوب لا غير؟ وهل في الكون ما هو جدير بأن نحزن عليه أو نفرح له؟ لا حزن هي الحياة ولا فرح. إنها لطمأنينة أبديّة. فاطمئن.
ألا أغمضي عينيك أيتها الحرية، وأشيحي بوجهك عن الناس، ثم لا تعجبي لهم، ولا تعتبي عليهم، ولا تُدينيهم بجهلهم، ولا تحرقي شفاههم كلما تلفظوا باطلاً باسمك، فشفاههم لا تنطق بما في قلوبهم، بل بما يتمنون لو كان في قلوبهم، والذي في قلوبهم هو الرّق في أخس مظاهره ومعانيه – رق الإنسان للإنسان. والذي يتمنون لو كان في قلوبهم هو روحك الطاهرة أيتها الحرية الطاهرة.
ولقد رأيتهم اليوم بعيني يسحقونك بأقدامهم سحقاً، وسمعتهم بأذني يهتفون: ليحيَ الملك! ومعنى ذلك ليحيَ الرّق! والموتُ للحُرّية!
فهم إذ يهتفون بحياة الرّق لا يُدركون أنهم بموتك يهتفون.
ليس العبد من يُباع ويُشرى في سوق النخاسة، وإنما العبد من قلبه سوق للنخاسة.
لذلك سكت والناسُ يهتفون.
عجبت لنفسي لا يُسعدها ما يُسعد الناس، ولا يُشقيها ما يُشقيهم، ألّعلني من غير طينة الناس؟
ها هو هذا المقهى، على صغره وحقارته، يكاد يكون معرضاً شاملاً لكل هموم الأرض والآمها ومسرّاتها تحملها إليه في كل يوم شرذمة لا شأن لها في الناس، ولكنها تُمثل خير تمثيل جميع مشاكل الناس.
ومن خلال هذه كلها حِراب مسنّنة من البغضاء والشحناء، وحروب لا يُكبحُ لها جِماح، فقلوب تُمزّق، وأرواح تُزهق، ومن سائل يسأل: أمن أجل هذا كُنّا وكانت الأرض والسماء؟
ولو أنني ما كان لي من هادٍ غير ما أُبصر من حوليّ وما أسمع لجزمت بأن حياة الناس سلسلة من المشاكل لا غير.
يا طالب الكمال، نِعِمّا ما تطلب. فهل أجملُ من أن تعرف كل ما تجهل، فتسود كل من كان يسودك، وتقود كل ما كان يقودك، تمتطي الزمان، ولا يمتطيك الزمان، وتحتضن المكان ولا يحتضنك المكان. المجد ثم المجد لك. والويل ثم الويل للساخرين بك!
ولكن – لهف قلبي عليك. أجل لهف قلبي عليك، فطريق الكمال كثيرُ المزالق.
ليس أبغض على الناس من أن يروا إنساناً يُفلتُ من أقفاصهم ويُحلق بعيداً عنهم. ولا أحب إليهم من أن يُصعق ذلك الإنسان فيخرُ صريعاً، أو أن يُكره على العودة إلى قفص من أقفاصهم. لذلك يشمتون بطالب الكمال لدى أول عثرة يعثرها في طريقه الكثير المعاثر.
مضى أسبوع كامل وسنحاريب لم أرَ له وجهاً، فقلقت عليه أشد القلق من غير أن أعرف سبباً معقولاً لذلك القلق، فلا الرجل صديقي أو نسيبي، ولا هو يُبدي نحوي درهماً من العطف الذي أكنّه له في قلبي، بل أراه على العكس ينفر مني وينظر إلي نظرة اشمئزاز وضغينة.
كنتُ واقفاً بالباب عندما درجت سيارة فخمة إلى الرصيف وكان يقودها سنحاريب بيده وعندما ترجل ذُهلت لمنظره كما ذُهل "شين" وزبائنه، وكان يتضوع منه عطراً ما إن تنشقته حتى شعرت كأن برأسي دواراً، وكأن المقهى تحول إلى قصراً منيفاً، وكأنني أعرف ذلك القصر وكل باب من أبوابه، وكل قطعة من رياشه وزخارفه.
والأغرب من ذلك أنني ما أن وقعت عيني على سنحاريب في زيه الجديد، وفي سيارته الجديدة، حتى شعرت كأنني عرفته من زمان، وكأنه كان ألصق بي من قميصي ببدني. أما أين كان ذلك، وكيف، ومتى، - فلا أذكر.
اليوم عيد – عيد العُمّال. والأرقش عامل. ولكن العيد ليس عيده.
وأي يوم هو عيدك يا أرقش؟ أنت وحدك بين كل ما في الأرض من آدميين لا عيد لك. بل أنت وحدك كل يوم من أيامك عيد. أليس أن كل يوم ينفحك بخيالات جديدة، وأحاسيس جديدة، ونِعمٌ لا نفاد لها؟ وهل العيد إلا ان تستمع ولو بنعمة واحدة من الوجود التي تفوق العدّ والإحصاء؟
أيها العاملون كِباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، مهما يكن عملكم وحيثما قضت الأقدار أن يكون – ههنا عامل حقيرٌ في مقهى حقير يمد لكم يده، ويفتح قلبه، ويعرِف قيمة العمل فيُبارك ما تعملون.
سألتُ نفسي اليوم: ماذا تُريدين يا نفسي؟
فأجابتني: أُريد أن أعرف.
فقلت: وماذا تريدين أن تعرفي؟
قالت: كل شيء
قلت: ولماذا تريدين أن تعرفي كل شيء؟
أجابت: لأنني أُريد أن أتحرر من كل شيء.
قلت: ألا تكون حُرّية بغير معرفة؟
قالت: بل تكون عبودية.
قلت: ألا تكون حياة بغير حرية؟
قالت: بل يكون موت.
ضاع كل شيء.. ضاع الأرقش
ضاعت عزلته المؤنسة ودنياه الفسيحة الحافلة بالرؤى. ضاعت المعرفة التي ينشد وحلّت محلها المعرفة التي لا تعرف، ولا تعرف أنها لا تعرف: معرفة الناس لأحسابهم وأنسابهم ومراتبهم ومطامعهم ونُظُمهم وتقاليدهم.
اليوم عرفتُ من أنا، أين ولدت، وما اسمي، وأين عشت، وماذا فعلت، وبمن اتصلت، ومن أحببت ومن أبغضت من الناس..
تذكرت ويا ليتني ما تذكرت..
ما كان أسعدني أيام نسيت كل ذلك!
ما كان أقوى جناحي أيام لا ماضٍ يشدني إلى أسفل، ولا ذكريات تُسمّر فكري وقلبي بالتراب!

مات الأرقش الحيّ وبُعث الأرقش الميت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق