الخميس، 19 ديسمبر 2013

كتاب الحرية الفكرية والدينية

كتاب الحرية الفكرية والدينية
"رؤية إسلامية جديدة"
للمؤلف: د. يحيى رضا جاد
دار النشر: الدار المصرية اللبنانية


الحرية الدينية والفكرية وحرية التعبير، في محيطنا وعصرنا، لا تزال أموراً من "القضايا المعلقة" التي يتجنب ويتحاشى الخوض فيها كثيرون إيثاراً للسلامة؛ سلامة سمعتهم الدينية من أن تتعرض للتشويش من أدعياء الفقه والفكر..
وهي قضايا يجب أن يتقدم لها من يجد من نفسه تأهلاً علمياً للخوض فيها، وشجاعة أدبية للصدع بما يراه بأدب.
وجرأة فكرية في اقتحام لجة هذه "المسائل الشائكة" التي قد تصيب الخائض فيها إصابات بالغة إن لم يحسن السباحة والغوص.
ومن أجل ذلك كان هذا البحث التأصيلي التجديدي الفقهي الفكري الفلسفي المركز، والمنطلق والمستهدي بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومقاصد شريعته؛ إذ التفلسف في ديننا فريضة، والتدين فلسفة.
إنما يقوم التفلسف - في جوهره ولبه - على التفكر والتدبر والتأمل والتعقل والاستنباط والمقارنة - أي على إعمال العقل -، وجميعها من فرائض الدين؛ فكان التفلسف في ديننا فريضة.
والتدين إنما يقوم - في أسه وأساسه، مبدأ ومنتهى - على الاجتهاد وإعمال العقل والتفكر والتدبر والتأمل والتذكر، وجميعها من صميم التفلسف، فكان التدين فلسفة.

التصور الإسلامي للوجود قائم على حقيقتين أساسيتين:
١- وحدانية الخالق.
٢- تعددية الخلق: وهي تعددية في الخلق والعرق واللسان والدين والثقافة والسياسة والفقه.
هكذا خلق الله البشر عروقاً وأجناساً كلها تنتمي لأب واحد هو آدم، ولأم واحدة هي حواء، ولرب واحد هو الذي خلقها وسواها.
وإنما يتفاوت الناس بالعلم والعمل والإحسان: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)
واختلاف الألسنة يعني ضمن ما يعني، اختلاف العقول والأفكار والمناهج والفلسفات؛ فاللسان ترجمان الفكر ووسيلة إعلامه الرسمية.
ومن ثم، لابد أن تصل الدعوة إلى كل قوم حسب مستواهم، وبالطريقة التي تلائمهم، باللغة التي يعقلونها.
فلسان القوم ليس مجرد "لغتهم"، ولكنه فوق ذلك ومعه، "مجمل المدخل المنطقي إليهم".
التعددية الدينية: اختلاف الدين بين الناس، وتعدد الأديان، حقيقة واقعة لا مجال لإنكارها أو محوها في نظر الإسلام..
ولقد جمع القرآن بين أمرين يظنهما كثير من الناس متناقضين لا يجتمعان: الاعتزاز بالدين إلى أقصى حد، والسماحة في التعامل مع المخالف في الدين إلى أقصى حد كذلك.
نعم إن الدين عند الله الإسلام، نعم يجب على المسلم أن يعتقد أن الإسلام وحده هو الحق.
ولكن هذا لا يمنع أن هناك أدياناً غير الإسلام يؤمن بها أصحابها - وإن كانت في نظره باطلة -، حتى دين المشركين الوثنيين، فقد قال الله تعالى على لسان رسوله مخاطباً المشركين: "لكم دينكم ولي دين"؛ فسماه ديناً.
وقوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم)؛ سمى القرآن ما هم عليه ديناً.. ولكن هذا لا يعني "اعترافاً بشرعيته"؛ أي لا يعني أنه دين مقبول عند الله، وأن أتباعه من أهل الجنان في الآخرة؛ لأن الله "لا يغفر أن يشرك به"، ولأن "الدين عند الله الإسلام" لا غير.

قاعدة (لا إكراه في الدين) تقرر قضية كلية قاطعة، وهي أن الدين لا يكون بالإكراه.
والدين والإكراه لا يمكن اجتماعهما، فمتى ثبت الإكراه بطل الدين..
الإكراه لا ينتج ديناً، وإنما ينتج نفاقاً وكذباً وخداعاً، وهي كلها صفات باطلة وممقوتة في الشرع، ولا يترتب عليها إلا الخزي في الدنيا والآخرة.
الإكراه في الدين سوس ينخر في العقائد؛ إذ القهر على الاقتناع بمبدأ يدفع البشر إلى النفاق؛ لذلك ترك الله أمر الإيمان للإنسان دون إكراه منه تعالى ولا إجبار؛ حتى يذهب الإنسان إلى الإيمان "بقلبٍ عاشق"؛ لأن الله تعالى لا يريد "أعناق عبيد" وإنما يريد "قلوب عباد".
كما أن تشريع الجهاد القتالي في الإسلام لم يكن للإكراه في الدين كما يشيع البعض، وإنما لتقرير حرية الاعتقاد والرأي والتعبير، حرية الاختيار بين الإيمان والكفر..
فالجهاد القتالي موجه ضد الإكراه في الدين وفرض الاعتقاد ومصادرة حق الناس في التفكير والاختيار والقرار.
ثم إن الجزية لم تجب على من وجبت عليهم لأجل كفرهم كما يشيع البعض، وإنما وجبت لأجل حربهم إيانا، فهي تعويض بسيط عما ضاع منا وفقد في حربهم.

"تأصيل فلسفة التعارف"
نقف هنا وقفة مطولة في رحاب قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)
تذكير بعنصر الزوجية والثنائية والتعددية التي قام ويقوم عليها الكون بكل مافيه؛ فلا انفراد ولا استفراد، بل اجتماع وجماعية؛ فتصور الوجود في الإسلام قائم على واحدية وأحدية ووحدانية الله تعالى، وزوجية وثنائية وتعددية كل ما عداه.

"وجعلناكم شعوباً وقبائل"
إقرار وتذكير بحقيقة "التنوع الإنساني" العرقي والاجتماعي والتاريخي، ومن ثم الفكري؛ فالتنوع في الألسن والألوان والأعراق يؤول - ولا بد - إلى تنوع في الدين والمذهب والمرجعية والرؤية الفلسفية والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية.
وكتاب هذا الدين، ليس للعرب وحدهم، (إن هو إلا ذكر للعالمين)
فهذه هي طبيعة الدين نفسه؛ فهو ليس دعوة عربية ولا شرقية ولا غربية ولا عرقية ولا إقليمية، بل هو دعوة "للعالمين"، كل العالمين.
وقبولنا للآخر غير المسلم ليس قبولاً بكفره أو شركه أو وثنه، وإنما هو قبول بالتكريم الإلهي له؛ قبول بحرية الاختيار التي كفلها الله له.
إنه قبول شرعي بوجوده على ما هو عليه لا قبول عقدي بشرعه أو معتقده الذي يخالف شرعنا ومعتقدنا.

"تعريف الحرية الدينية"
الحرية الدينية: هي أن يكون الإنسان آمناً في إظهاره لمعتقده، وفي دفاعه عنه..
وأول المظاهر المعلومة والدلائل البينة واللوازم الحتمية للقول بالحرية الدينية هي أنه: إذا ترك الإنسان دينه القديم - أياً كان هذا الدين - واعتنق ديناً آخر، فالواجب عقلاً وشرعاً أن يُترك هذا الإنسان وما اختار لنفسه..
"ضوابط الحرية الدينية"
إذا لم تقم ضوابط الحرية الدينية على معادلة دقيقة بين ما يحفظ حقيقة الحرية وجوهرها، وما يضمن بلوغها أهدافها وتحقيقها مقاصدها المبتغاة من ورائها، فإنها ستؤول إلى ما يهدرها؛ إما بالتقييد الذي ينقض حقيقتها، وإما بالفوضى التي تعطل مفعولها.
وهذه الضوابط هي: منع الغواية، تكافؤ الفرص، الأمانة في العرض، احترام المشاعر الدينية، ومنع التصرفات الكيدية.



من ضوابط الحرية الدينية: منع الغواية وتعني بألا يكون الخطاب مصحوباً بمغريات مادية، لما يتضمنه من تزييف هو في حقيقته ضرب من الإكراه النفسي، تُستغل فيه حاجة البشر..
وقوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) يومئ إلى أن الدعوة إلى المعتقدات بغير ما ذكرت الآية أمر منكر تقف دونه حرية الدعوة.
إذ الدعوة إلى الدين لا بد وأن تكون مبنية على الحجة والبينة.
ربما قيل: إن في الإسلام تشريعاً بإعطاء المال إلى من عرفوا بالمؤلفة قلوبهم، وفي هذا شيء من الدعوة إلى المعتقد برشوة مالية.
والحق أن إعطاء المؤلفة قلوبهم قسطاً من المال إنما هو:
١- لتأليف قلوب المسلمين الجدد وتثبيتهم على ما آمنوا به، وليس لجعلهم مسلمين بسبب ذلك المال..
٢- ولشد عضد المسلمين الجدد في المجتمعات التي تعادي أو تحارب أو تضيق على من يتحول عن دينها إلى الإسلام.
٣- ولتأليف قلوب غير المسلمين في المجتمع الإسلامي؛ كنوع من التضامن الاجتماعي المالي..

تكافؤ الفرص: بأن يكون بين الفرقاء العارضين لمعتقداتهم والداعين إليها تكافؤ في فرص عرضهم ودعوتهم؛ بحيث يتساوى الجميع في الإمكانيات..
فحينما يُتاح لصاحب معتقد ما: مال يقوى به على الحركة من أجل عرض معتقده، وأبواق دعائية ينشر بها ذلك المعتقد، وتنظيمات ينظم من خلالها دعوته إليها، ولا يتوفر شيء من ذلك لغيره من أصحاب المعتقدات المغايرة، فإن ذلك يؤول بأفراد المجتمع إلى الاستماع إلى دعوة واحدة لا غير؛ لعلو صوتها، ويحرمهم من الأصوات التي تنقدها وتعرض المخالف لها..

ومن ضوابط الحرية الدينية أيضاً: احترام المشاعر الدينية:
فللمعتقدات في النفوس حرمة لا تدانيها حرمة، حتى إن أصحابها يضحون بأنفسهم في سبيلها.
ومن التصرفات التي تجرح المشاعر الدينية: تناول المعتقدات بالتحقير والاستنقاص والشتم..
وتناول الرموز الدينية من أشخاص ومقدسات مختلفة بالتشنيع المادي والمعنوي؛ سباباً وقذفاً واتهاماً وتشويهاً..
وحرية المعتقد إنما تسمح "بالنقد" لا "بالتجريح"

"ضوابط حرية الفهم الديني"
١- لقد كفل الإسلام الحرية في فهم الدين بعد الإيمان به، فالإسلام لا كهنوت فيه، والمسلمون متساوون فيه في حرية الفهم، ولا يشترط عليهم إلا شروطاً منهجية تؤهل للفهم، فإذا ما حصلت تلك الشروط أصبح كل مسلم مهيأ لأن يكون عالماً للدين.
"حسبما يؤدي إليه اجتهاده العقلي فيما هو مجالاً للاجتهاد".
٢- إن العلم الديني تخصص شديد الدقة والعمق، لا يحل لأحد أن يخرض فيه إلا إذا كان مؤهلاً لذلك "تأهيلاً منهجياً"..
٣- إن فهم الدين من حيث هو المبدأ هو مسؤولية مشاعة بين المسلمين تنضوي تحت مسؤولية التكليف بالدين عموماً
فلكل مسلم الحق في أن يقوم بالاجتهاد، إن توفر على إمكان ذلك، أو بالاستعانة بغيره إن لم يتوفر عليه..
٤- لكننا في الوقت ذاته لا نرى أي مبرر لموقف كثيرين ممن لم يمتلكوا شيئاً من الأدوات المنهجية ولا من الشروط الموضوعية للنظر في الدين، ثم هم باسم حرية إبداء الرأي الديني - أي الاجتهاد إن شئت قلت - يتصدون للإفتاء في أمهات القضايا الدينية، بل وفي تفاصيل الأحكام الجزئية ذات الطبيعة الفنية الدقيقة..


‏"التصور والتأصيل الإسلامي لحرية الرأي والتعبير، والمقارنة بين رقابة السلطة ورقابة المجتمع"
أول وأبرز المفاهيم القيمية التي جاء بها الإسلام، وهو "الدين القيم"، كما وصفه ربنا عز وجل، أن الحرية أهم من الحياة نفسها، برهان ذلك قول الله عز وجل: (والفتنة أشد من القتل) وهذا نص صريح على أن الفتنة، التي هي سلب الحرية، أشد من القتل، الذي هو سلب الحياة.
‏والحرية فوق ذلك نقيض العبودية.. ولما كان "التحرير" هو نقيض الاسترقاق، كانت الحكمة والعلة في جعل الشريعة الإسلامية، تحرير الرقبة جزاءاً عن القتل الخطأ؛ للتكافؤ بين ما في الرق والعبودية من معنى "الموت"، وما في العتق والحرية من معنى "الحياة".
‏إذاً مقام "الحرية" يفوق في الأهمية وسلم الأولويات، "الضرورات الاجتماعية"، وليس فقط "الحقوق"، اللازمة لتحقيق
إنسانية الإنسان؛ إذ بفقدها هو ميت حكماً، حتى ولو عاش يأكل ويشرب ويسعى في الأرض؛ إذ هو في تلك الحالك إلى الدواب والأنعام أقرب!
فالحرية من ثم تقوم على مبدأين:
أولهما: كونها صفة فطرية غريزية تلقائية ملازمة لكينونة الإنسان وبشريته، بل جزء من ماهيته وكينونته، فلا يملك أحد أن ينزعها منه، ولا يجوز لأحد أن يمنعها عنه، ولو منع لوجب قتاله لاستردادها والدفاع عنها.
وثانيهما: كونها لا تكون إلا "عقلانية" و"منضبطة"؛ لأن عقلانيتها وانضباطها هو الشكل الوحيد الممكن لتحقيقها وانجاحها واستمرارها.
إن التمكين لحرية التعبير عن الفكر والاعتقاد هو الطريق إلى الحق والصواب؛ إذ في البيئة الحرة وحدها يزدهر الإيمان ويشرق الحق وينقدح الصواب؛ ومن ثم لا يمكن قيد حرية التعبير عن الفكر أو الاعتقاد بدعوى حماية الحق.
وغير سديد تخيل تعبير الآخر - أي آخر - عن أفكاره أمراً مسيئاً إلى الإسلام، أو ناشراً للشكوك، أو باعثاً على بلبلة المجتمع وخلخلة استقراره الفكري أو النفسي أو الحضاري؛ إذ إتاحة الحرية له للتعبير تنشط - بالمقابل لذلك - من المواقف والحركات والمراجعات مواقف الدفاع عن الإسلام وتجلية أنواره، وحركات إزالة ونفي ما التصق أو ألصق به..
‏إن حفظ وتثبيت إيمان المؤمن إنما يكون "بالمناعة" لا "المنع"؛ أي برفع قدرته المناعية ومستوى وعيه الثقافي والإسلامي، لا بمنع الغير من التعبير.
والقرآن الكرين إذا سرحت النظر في طوله وعرضه يطرح الفكر المضاد أيا ما كان من موقع الثقة بفكره، لأنه يملك من العناصر الحيوية المتحركة ما يدحض به هذا الفكر المضاد.
وهكذا الأمر يجب أن يكون مع أي فكر يطرح نفسه لقيادة الحياة - والإسلام في المقدمة من ذلك.
‏علينا أن ننتقل من "الرقابة" إلى "التقويم" ومن "الوصاية" على بعضنا البعض إلى "التواصي" بين بعضنا وبعض.

الحرية في جوهرها: "أن تتعبد للحق باختيارك، ومن ثم: ألا يستعبدك مخلوق في ظاهرك أو باطنك".
الأصل في حرية التعبير عن الرأي هو الإرسال والإطلاق، ولكنها في ذات الوقت مقيدة ومؤطرة بعدم الإساءة إلى الغير.

لا شيء من أفكار الإنسان أو أفعاله يجوز أن يكون مطلقاً؛ إذ "الإطلاق" بكماله وشموله وإحاطته وثباته واستقلاليته، يتنافى مع "بشرية الإنسان" التي هي بطبيعتها ناقصة ومتغيرة.

يمكنكم الاستماع لملخص الكتاب على بودكاست ورّاق
Waraqcast.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق