الخميس، 20 فبراير 2014

كتاب عبقرية محمد "صلى الله عليه وسلم"

عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم،
عباس العقاد
المكتبة العصرية، طبعة ٢٠١٣
(١٥٢) صفحة.

ونحن نضع كتابنا هذا عن "عبقرية محمد" بين يدي القراء، لا نقول إننا قد استوفيناه كما أردنا، و لا إننا فصلنا فيه  الغرض الذي توخيناه، فكتبناه ونحن نستحضر في الذهن تبرئة المقام المحمدي من تلك الأقاويل التي يلغط بها الأغرار والجهلاء عن حذلقة أو سوء نية، ونظرنا اتفاقاً، فإذا بأطول الفصول فيه الفصلان اللذان شرحنا فيهما موقف محمد صلى الله عليه وسلم من الحروب ومن الحياة الزوجية، لأنهما كانا مثار اللغط في كل ما ردده السفهاء الشانئين من الأصلاء والمقتدين في هذا الباب.
(علامات مولد)
كان عالماً متداعياً، قد شارف النهاية، خلاصة ما يقال فيه: إنه عالم فقد العقيدة كما فقد النظام.
أي أنه فقد أسباب الطمأنينة في الباطن والظاهر، طمأنينة الباطن التي تنشأ من الركون إلى قوة الغيب، تبسط يد العدل، وتحمي الضعف، وتجزي الظلم، وتختار الأصلح الأكمل من جميع الأمور.
وطمأنينة الظاهر التي تنشأ من الركون إلى دولة تقضي بالشريعة، وتفصل بين البغاة والأبرياء، وتحرس الطريق، وتخيف العائثين بالفساد.
كان عالم يتطلع إلى حال غير حاله، عالم يتهيأ للتبديل أو للهدم ثم البناء
وبين هذه الدول المتداعيات، أمة ليست بذات دولة ولكنها تتأهل لإقامة دولة، هي أمة العرب وقد تيقظت لوجودها وشعرت بمكانتها، كما شعرت بالخطر عليها، وبمواضع النقص منها.
في أيديها تجارة العالمين كلها.
فإذا سارت القوافل من خليج فارس إلى بحر الروم، فهي تسير في البادية بين حراس من العرب لا سلطان عليهم للدول المتداعية.
وإذا سارت القوافل من اليمن إلى الشام أو من بحر القلزم إلى بحر الروم، فهي في جيرة الأعراب من كلتا الطريقين.
مدينة واحدة تجتمع فيها ثروة الجزيرة، وعصبة واحدة من سادة القوم تجتمع في أيديها ثروة المدينة.
وقبيلة في تلك الأمة، وفي تلك المدينة، لها شعبتان: إحداهما من أصحاب الترف والطمع واستبقاء ما هو قائم كما كان قائماً على هواها.
والأخرى من أصحاب التقوى والسماحة والتوسط بين مقام القوي الذي يجور ويطغى، ومقام الضعيف الذي يحتمل الأذى، ولا يملك مع السيد الآمر إلا أن يذعن له.
وبيت من تلك الشعبة الوسطى له كرم النسب العريق وليس له لؤم الثروة الجامحة والكبرياء الجائحة، والقسوة على من دونه من المحرومين.
ورأس هذا البيت عبدالمطلب رجل قوي الخلق قوي الإيمان فيما آمن به، حكيم مع قوة طبعه، وشدة إيمانه.
وإذا كان عبدالمطلب جداً صالحاً لنبي كريم، فابنه عبدالله نعم الأب لذلك النبي الكريم.
لكأنما كان بضعة من عالم الغيب، أرسلت إلى هذه الدنيا لتعقب فيها نبياً وهي لا تراه، ثم تعود.

محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، ظهر والمدينة مهيأة لظهوره لأنها محتاجة إليه، والجزيرة مهيأة لظهوره لأنها محتاجة إليه، والدنيا مهيأة لظهوره لأنها محتاجة إليه.
وماذا من علامات الرسالة أصدق من هذه العلامة؟ وماذا من تدبير المقادير أصدق من هذا التدبير؟
علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة، وهي أسباب تمهد لظهورها، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أوانها.
فإذا تجمعت هذه العلامات فماذا يلجئنا إلى علامة غيرها؟ وإذا تعذر عليها أن تجتمع فأي علامة غيرها تنوب عنها أو تعوض ما نقص منها؟
(عبقرية الداعي)
الذي اتفق في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قد كان أعجب أعاجيب الاتفاق، وكان المعجزة التي تفوق المعجزات، لأنها مع ضخامتها وتعدد أجزائها وتوافق تلك الأجزاء جميعها، مما يقبله العقل قبولاً سائغاً بغير عنت ولا استكراه.
(فصاحته صلى الله عليه وسلم)
الفصاحة صفة تجتمع للكلام، ولهيئة النطق بالكلام، ولموضوع الكلام، فقد يكون الكلام فصيحاً وهيئة النطق به غير فصيحة، أو يكون الكلام والنطق به فصيحين، ثم لا تجتمع لموضوعه صفة الفصاحة السارية في الأسماع والقلوب.
أما فصاحة محمد عليه الصلاة السلام، فقد تكاملت له في كلامه، وفي هيئة نطقه بكلامه، وفي موضوع كلامه.
فكان أعرب العرب، كما قال عليه السلام: "أنا قرشي واسترضعت في بني سعد بن بكر"
فله من اللسان العربي أفصحه بهذه النشأة القرشية البدوية الخالصة.. وهذه هي فصاحة الكلام.
وكانت له عليه الصلاة والسلام مع الفصاحة صباحة ودماثة تحببانه إلى كل من رآه، وتجمعان إليه قلوب من عاشروه، وهي صفة لم يختلف فيها صديق ولا عدو.
وقد كان مشهوراً عليه الصلاة والسلام إلى جانب ذلك كله بصدقه وأمانته، وشهد له بذلك أعداؤه ومخالفوه.
ومن المحقق أن هذه الموافقات على كثرتها، وهذه الشمائل على ندرتها، لا تزال تتوقف على صفة أخرى يحتاج إليها الداعي أشد من احتياجه إلى الفصاحة والصباحة.. وهي إيمانه بدعوته وغيرته على نجاحها.
وقد قضى صلى الله عليه وسلم شبابه وهو يؤمن بفساد الزمان وضلال الأوثان.
ولما آمن برسالته ودعوة ربه إياه إلى القيام بأداء تلك الرسالة لم يهجم على هذا الإيمان هجوم ساعة ولا هجوم يوم، ولم يتعجل الأمر تعجل من يخدع نفسه قبل أن يخدع غيره، ولكنه تردد حتى استوثق، وجزع حتى اطمأن.
أي إرهاب وأي سيف؟
إن الرجل حين يقاتل من حوله إنما يقاتلهم بالمئات والألوف وقد كان المئات والألوف الذين دخلوا في الدين الجديد يتعرضون لسيوف المشركين ولا يعرضون أحداً لسيوفهم، وكانوا يلقون عنتاً ولا يصيبون أحداً بعنت، وكانوا يخرجون من ديارهم لياذاً بأنفسهم وأبنائهم من كيد الكائدين ولا يُخرجون أحداً من داره.
فهم لم يسلموا على حد السيف خوفاً من النبي الأعزل المفرد بين قومه الغاضبين عليه، بل أسلموا على الرغم من سيوف المشركين ووعيد الأقوياء المتحكمين.
فلم تكن حرب من الحروب النبوية كلها حرب هجوم، ولم تكن كلها إلا حروب دفاع وامتناع.
أما الإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمور والحور العين، فلو كان هو باعثاً للإيمان، لكان أحرى الناس أن يستجيب إلى الدعوة المحمدية هم فسقة المشركين وفجرتهم وأصحاب الترف والثروة فيهم.
ولكان فسقة قريش هم أسبق الناس إلى استدامة الحياة واستبقاء النعمة، فإن حياة النعيم بعد الموت محببة إلى المنعمين تحبيبها إلى المحرومين.
لم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر..
ولم يكن السابقون إلى محمد أرغب في النعيم من المتخلفين عنه.
ولكننا ننظر إلى السابقين وننظر إلى المتخلفين، فنرى فارقاً واحداً بينهم أظهر من كل فارق، ذلك هو الفارق بين الأخيار والأشرار، وبين الرحماء المتصفين والظلمة المتصلفين. وبين من يعقلون ويصغون إلى القول الحق، ومن يستكبرون ولا يصغون إلى قول.
وفي قصة إسلام عمر، خرج بالسيف ليقتل محمداً عليه الصلاة والسلام، ولم يخرج عليه أحد من المسلمين بسيف.
فلا جبن في إسلام عمر رضي الله عنه ولا طمع، بل رحمة وإنابة واعتذار.

كذلك لم يكن في إسلام الفقراء الذين هم أقل من عمر ناصراً وأضعف منه بأساً جبن ولا طمع، لأنهم تعرضوا بإسلامهم للسيف ولم يخضعوا للسيف حين أسلموا لله وللرسوله.
وما كفر الذين كفروا لزهد ولا شجاعة فيقال: إن الذين سبقوهم إلى الإسلام قد فعلوا ذلك لشغف بلذات الجنة وجبن عن مواجهة القوة..
ولكنهم اختلفوا حيث تطلب طهارة السيرة وصلاح الأمور، فمن كان أقرب إلى هذه الطلبة من غني أو فقير ومن سيد أو مستعبد فقد أسلم، ومن كان به زيغ عنها فقد أبى.
(عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم العسكرية)
ينبغي أن نستخضر في الذهن بعض الحقائق التي تظهر لنا الاختلاف بين الدين الإسلامي والأديان الأخرى في مسألة القتال:
الحقيقة الأولى: أن مطعن القائلين بأن الإسلام دين قتال إنما يصدق - لو صدق - في بداءة عهد الإسلام، يوم دان بهذا الدين كثير من العرب المشركين، ولولاهم لما كان له جند ولا حمل في سبيله سلاح.
لكن الواقع أن الإسلام في بداية عهده كان هو المُعتدى عليه، ولم يكن من قِبله اعتداء على أحد.
والحقيقة الثانية: أن الإسلام إنما يُعاب عليه أن يحارب بالسيف فكرة يمكن أن تُحارب بالبرهان والإقناع.
ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف "سلطة" تقف في طريقه، وتحول بينه وبين أسماع المستعدين للإصغاء إليه.
لأن السلطة تزال بالسلطة، ولا غنى في إخضاعها عن القوة.

القائد البصير صلى الله عليه وسلم
لم يكن الإسلام دين قتال، ولم يكن عليه الصلاة والسلام رجلاً مقاتلاً يطلب الحرب للحرب، أو يطلبها وله مندوحة عنها، ومع هذا كان نعم القائد البصير إذا وجبت الحرب.
وقد كانت غزوة بدر هي التجربة الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم في إدارة المعارك الكبيرة، فلم يأنف أن يستمع فيها إلى مشورة الحباب بن المنذر حين اقترح عليه الانتقال إلى غير المكان الذي نزل فيه.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام قد وعى من تجربة واحدة ما قلّ أن يعيه القادة المنقطعون للحرب من تجارب شتى..
فلو تتبع حروبه صلى الله عليه وسلم ناقد عسكري من أساطين فن الحرب في العصر الحديث ليقترح وراء خططه مقترحاً، أو ينبه إلى خطأ، لأعياه التعديل.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان أعرف الناس بفعل الدعوة في كسب المعارك وتغليب المقاصد، فكان يبلغه عن بعض أفراد أنهم يخفرون الذمة، التي عاهدوا عليها، ويشهرون به وبالإسلام أو يثيرون العشائر لقتاله، فينفذ إليهم من يحاربهم في حصونهم أو يتكفل له بالخلاص منهم.
فليس في حالة سلم مع النبي صلى الله عليه وسلم من يحاربه في صميم الدعوة الدينية، ويقصده بالطعن في لباب رسالته الإسلامية، وإن لم ينفر الناس لقتاله ولم يحرضهم على النكث بعهده.
والدعوة في الحرب لها غرضان أصيلان بين أغراضها العديدة، أحدهما: إقناع خصمك والناس بحقك، وهذا قد تكفل به القرآن والحديث ودعاة الإسلام جميعاً.
وثانيهما: إضعافه عن قتالك بإضعاف عزمه وإيقاع الشتات بين صفوفه.
وربما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم برجل واحد في هذا الغرض ما لم تبلغه الدول بالفرق المنظمة، وبالمكاتب والدواوين وبدر الأموال.
إن بعض المستشرقين زعموا أنه عليه الصلاة والسلام قد اشترك في حرب الفجار بتجهيز السهام، لأنه عمل أقرب إلى خلقه من الخوض في معمة القتال.. وكأنهم أرادوا أنه لم يكن قادراً على المشاركة في المعمعة بغير ذلك.
فهذا خطأ في الإحاطة بمزايا هذه النفس العظيمة التي تعددت جوانبها حتى تجمعت فيها أطيب صفات الحنان وأكرم صفات البسالة والإقدام..
فمحمد كان في طليعة رجاله حين تحتدم نار الحرب ويهاب شواظها من لا يهاب.
وكان علي فارس الفرسان يقول: "كنا إذا حمى البأس اتقينا برسول صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب منه إلى العدو".
ومن خصائص العظمة النبوي
 في محمد صلى الله عليه وسلم أنه وصف بالنقيضين على ألسنة المتعصبين من أعداء دينه، فهو عند أناس منهم صاحب رقة تحرمه القدرة على القتال، وهو عند أناس آخرين صاحب قسوة تضريه بالقتل وإهدار الدماء البشرية في غير جريرة.
وتنزه محمد صلى الله عليه وسلم عن هذا وذاك.

"اللهم هل بلغت"!
هذه هي اللازمة التي رددها النبي صلى عليه وسلم في أطول خطبه الأخيرة، وهي خطبة الوداع..
وهي لازمة عظيمة الدلالة في مقامها، لأنها لخصت حياة كاملة في ألفاظ معدودات فما كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم كلها بعملها وقولها وحركتها وسكونها إلا حياة تبليغ وبلاغ.
ومحمد القرشي الناشيء في بني سعد، العالم بلهجات القبائل حتى ما تفوته لهجة قبيلة نائية في أطراف الجزيرة، لم يكن في كلامه كله غريب يجهله السامع أو يحتاج تبيانه إلى مراجعة..
وسر ذلك أنه يريد أن يبلغ ويريد أن يصل إلى سامعه، ولا يريد أن يقيم بينه وبين السامع حاجزاً من اللفظ الغريب، ومن ذلك ما روي عنه أنه كان يعيد الكلمة ثلاثاً لتعقل عنه، وأنه كان يبغض التكلف والاغترار بالبلاغة.
وقد عرف عنه صلى الله عليه وسلم في حياته الخاصة والعامة أنه كان قليل الكلام، معرضاً عن اللغو.
ولمن يشاء أن يحسب أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم - كتاباً وخطاباً - أسلوباً عصرياً يقتدي به المعاصرون في زماننا هذا وفي كل زمان..
لأن الأسلوب الذي يخرج من الفطرة السليمة هو أسلوب عصري في جميع العصور..
(معاملته لزوجاته صلى الله عليه وسلم)
كان ألين الناس ضحاكاً بساماً، كما قالت عائشة رضي الله عنها. وكان يزورهن جميعاً في الصباح والمساء.
ولم يجعل من هيبة النبوة سداً رادعاً بينه وبين نسائه، بل أنساهن برفقه وإيناسه أنهن يخاطبن رسول الله في بعض الأحايين..
وقد كان يتولى خدمة البيت معهن، وكان إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه، فأيهن خرج سهمها خرج بها رسول الله معه.
تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرميه به المشهرون بالإسلام فيكثرون من رميه كلما تكلموا عن أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم.
ولو كانت لذات الحس - كما زعموا - هي التي سيطرت على زواجه صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة رضي الله عنها، لكان الأحجى بإرضاء هذه الملذات أن يجمع النبي إليه تسعاً من الفتيات الأبكار اللاتي اشتهرن بجمالهن في مكة والمدينة والجزيرة العربية، لكنه لم يتزوج بكراً غير عائشة رضي الله عنها، وكانت أولى زيجاته بعد خديجة رضي الله عنها سودة بنت زمعة وهي ثيب، بعد أن توفي زوجها بعد رجوعه من الهجرة إلى الحبشة.
وكانت للنبي صلى الله عليه وسلم زوجة أخرى هي زينب بنت جحش ابنة عمه، التي زوجها لزيد بن حارثة، وزواجه منها عليه الصلاة والسلام بعد تطليق زيد إياها وتعذر التوافق بينهما، ولو كان زواجه للذات الحس لكان أيسر شيء عليه صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها ابتداءً..
أما سائر زوجاته رضي الله عنهن، فما من واحدة منهن إلا كان لزواجه منها سبب من المصلحة العامة أو من المروءة والنخوة دون ما يهذر به المرجفون من لذات الحس المزعومة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق