الخميس، 27 فبراير 2014

كتاب سيكولوجية الجماهير


سيكولوجية الجماهير

، غوستاف لو بون،
دار الساقي للنشر،
 الطبعة الرابعة ٢٠١٣

منذ قرن فقط، كانت السياسة التقليدية للدول والمنافسات الجارية بين الحكام هي التي تشكل العوامل الأساسية لتحريك الأحداث.
ولم يكن لرأي الجماهير في الغالب الأعم أي قيمة...
وأما اليوم فنلاحظ أن التقاليد السياسية والتوجهات الفردية للملوك والحكام والمنافسات الكائنة بينهم لا تؤثر على مسار الأحداث إلا قليلاً.
وقد أصبح صوت الجماهير راجحاً وغالباً. فهو الذي يملي على الملوك تصرفاتهم.
ولم تعد مقادير الأمم تحسم في مجالس الحكام، وإنما في روح الجماهير.
إن الجماهير غير ميالة كثيراً للتأمل، وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية. ولكنها مؤهلة جداً للإنخراط في الممارسة والعمل.
إن الكُتّاب المقربين من بورجوازيتنا الحاكمة والذين يعتبرون أفضل ممثلين لأفكارها الضيقة ووجهات نظرها المحدودة وشكوكيتها المختزلة وأنانيتها المفرطة أحياناً قد أخذوا يشعرون بالهلع والخوف أمام هذه السلطة الجديدة التي يرونها تبزغ وتكبر أمام أعينهم.
لنستسلم إذن لحكم الجماهير، ذلك أن الأيدي الجاهلة قد حطمت كل الحواجز التي كان بإمكانها أن توقفها عند حدها.
وهذه الجماهير التي ابتدأ الناس يتحدثون عنها بكثرة لا تزال معرفتنا بها ضعيفة جداً.
فبما أن علماء النفس المحترفين قد عاشوا بعيداً عنها فإنهم تجاهلوها باستمرار. ولم يهتموا بها إلا من خلال الجرائم التي قد ترتكبها.
وهناك جماهير مجرمة بدون شك، ولكن هناك أيضاً جماهير فاضلة، وجماهير بطلة، وجماهير أخرى عديدة أيضاً.
في الواقع أن أسياد العالم ومؤسسي الأديان أو الأمبراطوريات ورسل مل العقائد، ورجالات الدول العظام، كلهم كانوا علماء نفس على غير وعي منهم.
وكانوا يعرفون روح الجماهير بشكل فطري، وفي الغالب بشكل دقيق وموثوق جداً. وبما أنهم يعرفونها جيداً ويعرفون كيف يتعاملون معها فإنهم قد أصبحوا أسيادها.
فنابليون بونابرت مثلاً كان ينفذ بشكل  رائع إلى أعماق نفسية الجماهير الفرنسية، ولكنه كان يجهل بشكل كلي أحياناً نفسية الجماهير التي تنتمي إلى أجناس أو أعراق مختلفة.
إن معرفة نفسية الجماهير تشكل المصدر الأساسي لرجل الدولة الذي يريد ألا يُحكم كلياً من قِبلها، ولا أقول يحكمها لأن ذلك قد أصبح اليوم صعباً جداً.

إن كلمة جمهور تعني في معناها العادي تجمعاً لمجموعة لا على التعيين من الأفراد، أياً تكن هويتهم القومية أو مهنتهم أو جنسهم، وأياً تكن المصادفة التي جمعتهم.
ولكن مصطلح الجمهور يتخذ معنى آخر مختلفاً تماماً من وجهة النظر النفسية.
ففي بعض الظروف المعينة، وفي هذه الظروف فقط، يمكن لتكتل ما من البشر أن يمتلك خصائص جديدة مختلفة عن خصائص كل فرد يشكله. فعندئذ تنطمس الشخصية الواعية للفرد، وتصبح عواطف وأفكار الوحدات المصغرة المشكلة للجمهور موجهة نفس الاتجاه.
إنها تشكل عندئذ كينونة واحدة وتصبح خاضعة لقانون الوحدة العقلية للجماهير.
إن ذوبان الشخصية الواعية للأفراد وتوجيه المشاعر والأفكار في اتجاه واحد يشكل الخصيصة الأولى للجمهور الذي هو في طور التشكل.
والظاهرة التي تدهشنا أكثر في الجمهور النفسي هي التالية:
أياً تكن نوعية الأفراد الذين يشكلونه، وأياً يكن نمط حياتهم متشابهاً أو مختلفاً وكذلك اهتماماتهم ومزاجهم أو ذكاؤهم، فإن مجرد تحولهم إلى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية.
وهذه الروح تجعلهم يحسون ويفكرون ويتحركون بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التي كان سيحس ويفكرون ويتحركون بطريقة مختلفة تماماً عن الطريقة التي كان سيحس بها ويفكر ويتحرك كل فرد منهم لو كان معزولاً.
وبعض الأفكار والعواطف لا تنبثق أو لا تتحول إلى فعل إلا لدى الأفراد المنطوين في صفوف الجمهور.
هناك أسباب عديدة تتحكم بظهور الصفات الخاصة بالجماهير.
وأولها هو أن الفرد المنضوي في الجمهور يكتسب بواسطة العدد المتجمع فقط شعوراً عارماً بالقوة.
وهذا ما يتيح له الإنصياع إلى بعض الغرائز، ولولا هذا الشعور لما انصاع.
وهو ينصاع لها عن طوع واختيار لأن الجمهور مُغفل بطبيعته وبالتالي فغير مسؤول.
وبما أن الحس بالمسؤولية هو الذي يردع الأفراد فإنه يختفي في مثل هذه الحالة كلياً.
وأما السبب الثاني، فهو العدوى العقلية أو الذهنية. فهي تتدخل لكي ترصد لدى الجماهير تجليات الصفات الخاصة، ثم لكي توجهها في نفس الوقت.
وأفراد الجمهور الذين يمتلكون شخصية قوية جداً تمكنهم من مقاومة المحرّض، هم ذوو عدد ضئيل وبالتالي يجرفهم التيار معه.
(الخصائص الأساسية للجماهير)

سرعة انفعال الجماهير وخفتها ونزقها.
ويمكننا أن نحدد فيزيولوجيا هذه الظاهرة عن طريق القول بأن الفرد المعزول يمتلك الأهلية والمفاءة للسيطرة على ردود فعله، هذا في حين أن الجمهور لا يمتلكها.
فلا شيء متعمد أو مدروس لدى الجماهير. فهي تستطيع أن تعيش كل أنواع العواطف وتنتقل من النقيض إلى النقيص بسرعة البرق وذلك تحت تأثير المحرض السائد في اللحظة التي تعيشها.
- سرعة تأثر الجماهير وسذاجتها وتصديقها لأي شيء.
إن الجمهور يشرد باستمرار على حدود اللا شعور ويتلقى بطيبة خاطر كل الاقتراحات والأوامر.
ومن المتوقع أن تكون التضخيمات والتشويهات التي يلحقها جمهور ما بحدث ما يشهده شخصياً، كثيرة جداً وذات معانٍ متعددة، وذلك لأن الأشخاص الذين يشكلون الجمهور ذوو طباع شديدة الاختلاف والتنوع. ولكن الواقع غير ذلك أبداً.
- عواطف الجماهير: تضخيمها وتبسيطها.
إن العواطف التي تعبر عنها الجماهير سواء أكانت طيبة أم شريرة تتميز بطابع مزدوج: بمعنى أنها مضخمة جداً ومبسطة جداً.
وعنف عواطف الجماهير يزداد مبالغة وتضخيماً لدى الجماهير غير المتجانسة بسبب انعدام المسؤولية.
وتصبح الثقة بالنفس والاطمئنان بعدم المعاقبة أقوى كلما كان عدد الجمهور أكبر، لأن ذلك يشعره بزيادة سلطته.
وهذا ما يجعل الجماهير المحتشدة قادرة على القيام بأعمال يعجز عنها الفرد الواحد.
- تعصب الجماهير واستبداديتها ونزعتها المحافظة.
بما أن الجماهير لا تعرف إلا العواطف البسيطة والمتطرفة، فإن الآراء والأفكار والعقائد التي يحرضونها عليها تقبل من قبلها أو ترفض دفعة واحدة.
فأما أن تعتبرها كحقائق مطلقة أو كأخطأ مطلقة.
وبما أن الجمهور لا يشك لحظة واحدة فيما يعتقده الحقيقة أو الخطأ، وبما أنه واعٍ كل الوعي بحجم قوته فإن استبداده يبدو بحجم تعصبه.
وإذا كان الفرد يقبل الاعتراض والمناقشة، فإن الجمهور لا يحتملها أبداً.
إن الاستبداد والتعصب يشكلان بالنسبة للجماهير عواطف واضحة جداً، وهي تحتملها بنفس السهولة التي تمارسها.
فهي تحترم القوة ولا تميل إلى احترام الطيبة التي تعتبرها شكلاً من أشكال الضعف.
وما كانت عواطفها متجهة أبداً نحو الزعماء الرحيمين والطيبي القلب، وإنما نحو المستبدين الذين سيطروا عليها بقوة وبأس.
وبما أن الجماهير مستعدة دائماً للتمرد على السلطة الضعيفة فإنها لا تحني رأسها إلا للسلطة القوية.
أفكار الجماهير: أياً تكن الأفكار التي توحى للجماهير أو تحرص عليها، فإنه لا يمكنها أن تصبح مهيمنة إلا بشرط أن تتخذ هيئة بسيطة جداً وأن تتجسد في نفوسها على هيئة صور.
وعندما تتوصل فكرة ما بواسطة مجريات متعددة إلى الإنغراس في روح الجماهير فإنها تكتسب قوة لا تقاوم وينتج عنها سلسلة من الإنعكاسات والنتائج.
المحاجات العقلية للجماهير: لا يمكننا القول بشكل مطلق أنه لا يمكن التأثير على الجماهير بواسطة المحاجات العقلية.
ولكن الحجج التي تستخدمها وتلك التي تؤثر عليها تبدو من وجهة النظر المنطقية متدنية إلى حد أنه لا يمكننا وصفها بالعقلانية إلا عن طريق القياس والتشبيه.
وضعف بعض الخطابات التي مارست تأثيراً ضخماً على السامعين تدهشنا أحياناً عندما نقرؤها.
لكننا ننسى أنها قد كُتبت من أجل تعبئة الجماهير وليس من أجل أن تقرأ من قبل الفلاسفة.
والخطيب المتواصل بشكل حميمي مع الجمهور يعرف كيف يثير الصور التي تجذبها وتحركها.
خيال الجماهير، أو مخيلة الجمهور: الجماهير تشبه إلى حد ما حالة النائم الذي يتعطل عقله مؤقتاً ويترك نفسه عرضة لانبثاق صورة قوية ومكثفة جداً، ولكنها سرعان ما تتبخر على محك التفكير.
ولما كانت الجماهير غير قادرة لا على التفكير ولا على المحاكمة العقلية، فإنها لا تعرف معنى المستحيل أو المستبعد الحدوث.
ولما كانت الجماهير عاجزة عن التفكير إلا بواسطة الصور، فإنه لا يمكن جذبها والتأثير عليها إلا عن طريق الصور.
كيف تولّد الجماهير آراؤها وعقائدها، وكيف تترسخ في النفوس؟
إن العوامل التي تحدد آراء الجماهير وعقائدها ذات نوعين: عوامل بعيدة وعوامل قريبة "أو مباشرة"
فالعوامل البعيدة تجعل الجماهير قادرة على تبني بعض القناعات وغير مؤهلة لتبني قناعات أخرى.
أما العوامل المباشرة، فهي تلك التي إذا ما تراكبت على ذلك العمل التمهيدي الطويل الذي لا يمكنها أن تفعل فعلها بدونه، أثارت الاقتناع الفعال لدى الجماهير.
وهي التي تدفع أغلبية كبيرة من الشعب إلى الوصول بشخص ما إلى سدة السلطة، أو إسقاط حكومة معينة.
عندما درسنا مخيلة الجماهير رأينا أنها تتأثر بالصور بشكل خاص. فهي تبهرها فعلاً.
وإذا لم نكن نمتلك الصور فإنه من الممكن أن نثيرها في مخيلة الجماهير عن طريق الإستخدام الذكي والصائب للكلمات والعبارات المناسبة.
والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق هي التي تمتلك أحياناً أكبر قدرة على التأثير والفعل.

إن القادة ليسوا في الغالب رجال فكر، ولا يمكنهم أن يكونوا، وإنما رجال ممارسة وانخراط. وهم قليلو الفطنة وغير بعيدي النظر.
والشعوب لم ينقصها أبداً قادة في التاريخ. ولكنهم لا يمتلكون جميعاً تلك القناعات القوية التي تصنع الرسل. فهؤلاء القادة هم غالباً عبارة عن خطباء ماهرين لا يفكرون إلا بمصالحهم الشخصية، وهم يحاولون إقناع الجماهير عن طريق دغدغة الغرائز الوضيعة.
وبالتالي فإن النفوذ الذي يمارسونه على الناس يضل دائماً مؤقتاً وعابراً.
إن دور القادة الكبار يكمن في بث الإيمان سواء أكان هذا الإيمان دينياً أم سياسياً أم اجتماعياً.
إنهم يخلقون الإيمان بعملٍ ما، أو بشخصٍ ما، أو بفكرةٍ ما.
إن سلطة القادة استبدادية جداً، ولا تتمكن من فرض نفسها إلا بواسطة هذه الاستبدادية.
والشيء الذي يهيمن على روح الجماهير ليس الحاجة إلى الحرية وإنما إلى العبودية.
ذلك أن ظمأها للطاعة يجعلها تخضع غرائزياً لمن يعلن بأنه زعيمها.
يمكن تقسيم الحماهير المختلفة التي نستطيع العثور عليها لدى كل شعب على الطريقة التالية:
أ- جماهير غير متجانسة:
جماهير مغفلة، كجماهير الشارع مثلاً.
جماهير غير مغفلة، كهيئات المحلفين، والمجالس البرلمانية.. الخ.
ب- جماهير متجانسة:
الطوائف، "الطوائف السياسية، الدينية..الخ".
. الزمر، "زمرة عسكرية، كهنوتية، عمالية..الخ".
. الطبقات، "الطبقة البورجوازية، الفلاحية،..الخ".
الجماهير الانتخابية: إن الجماهير الانتخابية، أي الجماعات المدعوة لانتخاب المسؤولين عن بعض المراكز والمناصب، تشكل جماهير غير متجانسة. وبما أنها لا تؤثر إلا على نقطة واحدة محددة، أي اختيار شخص من بين مرشحين عديدين، فإننا لا نجد لديها إلا بعض خصائص الجماهير التي ذكرناها سابقاً.
أول صفة ينبغي أن يمتلكها المرشح للإنتخابات هي الهيبة الشخصية.
فالهيبة الشخصية لا يمكن أن تغوص بأي شيء آخر إلا بواسطة الثروة والغنى.
إن حاجة المرشح الماسة لأن يكون متجلبباً برداء الهيبة الشخصية وبالتالي في فرض نفسه على الآخرين دون مناقشة هي شيء أساسي وحاسم.
والبرنامج المكتوب للمرشح لا ينبغي أن يكون دقيقاً جداً أو قطعياً لأن خصومه يمكنهم أن يواجهوه به فيما بعد.
وكذلك برنامجه الشفهي لا ينبغي أن يكون متطرفاً أو مبالغاً فيه أكثر مما يجب. بالطبع يمكنه أن يعد ناخبيه بالإصلاحات الضخمة، دون أي خوف من ذلك. فهذه الوعود المبالغ فيها تولد آثاراً ضخمة على الناخبين في لحظتها، وهو ليس مضطراً للالتزام بها بعد نجاحه. فالناخب لا يهتم لاحقاً أبداً بمسألة التحقق فيما إذا كان المرشح قد التزم بتطبيق وعوده أم لا، بل إنه ينسى ذلك تماماً على الرغم من أن الإنتخابات تكون قد حسمت على أساس هذا البرنامج.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق