الخميس، 10 أكتوبر 2013

كتاب من حديث النفس

من حديث النفس، للشيخ علي الطنطاوي، دار النشر: دار المنارة، الطبعة الرابعة ١٩٩٠م
أرجو من القارئ ألا ينظر في فصل من فصول هذا الكتاب، حتى يرى تاريخ كتابته، فليس كل ما فيه لعلي الطنطاوي الذي يكتب هذه المقدمة، بل إن كل فصل فيه لعلي الطنطاوي الذي كان في ذلك التاريخ.
قال لي أهلي: لقد جئت إلى هذه الدنيا عارياً بلا أسنان، لا تحسن النطق، ولا تعرف شيئاً.. فضحكت ولم أُصدق، فأعادوا ذلك علي، وألقوه كأنه قضية مسلّمة وأمر واضح لا يحتمل الشك، وعجبوا مني حين أُكذبه وأرده.. ولكني بقيت على رأيي الأول، لم أستطع مطلقاً أن أُصدق ما يقولون، لأني أعرف بنفسي منهم، ولأني أذكر ماضيّ كله: أذكر أنني فتحت عيني ذات يوم فجأة ونظرت.. فوجدت نفسي، ورأيت أن لي أسناناً وعلي ثياباً، وأن بي قُدرة على المشي والنطق، ورأيتني شخصاً مستقلاً عن أبي وأمي وسائر أهلي، أحب أشياء لا يحبها أحد منهم، وأكره أشياء لا يكرهونها، ولا يميزني منهم إلا أني كالطبعة المختصرة من الكتاب، فيها الأبواب كلها والفصول بيد أنها موجزة.. بالقطع الصغير..
أفيعقل أن أكون موجوداً قبل ذلك اليوم، وأنا لا أعرف نفسي؟
مستحيل!
واستقر في نفسي من يومئذ، أني ولدت وأنا في الرابعة من عمريّ!
ونظرت يوماً من الأيام، فإذا في مكان ذلك الطفل اللاهي اللاعب، تلميذ يقرأ مكرهاً، ويكتب مضطراً، ويحمل هم المدرسة التي يذهب إليها كل يوم كالذي يساق إلى الموت، لا يعرف لوجوده فيها معنى ولا يدري فيم يدع عطف أمه والأنس بأخوته ليذهب إلى هذه الدار التي يحشد فيها الأطفال المساكين، لتحشى أدمغتهم بمسائل لا يدركون معناها، وتنال من أبشارهم عصا المعلم الغليظة، فلا المعلم يبسم لهم، ويدعوهم إلى حبه، ولا أهلوهم يستمعون شكواهم وينصفونهم.
لقد خدعته المدرسة، وكذبت عليه، وصورت له الحياة على غير حقيقتها: قالت له المدرسة: "العلم خيرٌ من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال". فرأى أن المال في الحياة خير من العلم، العلم لا ينال إلا بالمال، فلو أن شاباً كان أذكى الناس، وأنبه الناس، وكان مُفلِساً لا يملك أجور المدرسة، وأثمان الكتب والثياب، لما قبل في جامعة ولا حصل علماً والعلم لا يثمر إلا بالمال، فلو أن أعلم أهل الأرض، كان مفلساً، يُفكر في خبزه من أين يأتي به، وبيته كيف يستأجره، لما بقي له عقل يُفكر، وذكاء يُنتج..
نزل الشاب إلى ميدان الحياة، برأس مترع بالعلوم، والمبادئ السامية، ويد مثقلة بالشهادة الابتدائية والثانوية والعالية وجيب خاوٍ خال.. فلم تكن إلا جولة "واحدة"، حتى ولّى منهزماً!
هذه هي سنة الحياة، وليس على الحياة ذنب، فهي سافرة لم تستتر ولم تخدع أحدا، ولكن الذنب على الأدباء والمدرسين الذين وضعوا عيونهم في أوراقهم، وحبسوا أنفسهم في مكاتبهم، وأرادوا أن يدرسوا الحياة، فلم يفهموا منها شيئاً..
لو إني قدرت أن أكتب معشار ما أتصور لكنت شيئاً عظيماً، ولكني لا أقدر، ولا أصب في مقالاتي إلا حثالة أفكاري.
من أجل ذلك أكره أن أنظر في كل ما كتبت، وأستحي أن أعود إليه، وأرى أن الذي يمدحني بمقالاتي يحقرني لأنه لا يعلم أنها دراهم من خزائن نفسي المفعمة بالذهب، لكن الذي ينقد مقالاتي يقول لي: إنك غني فالدرهم قليل منك، إ ن هذه المقالة حقيرة لأنك عظيم..
لقد تعلمت هذه المسألة من عهد قريب، فصرت أحب النقد، وكنت أجهلها من قبل فأميل إلى الثناء والتقريظ.
تعلمت أن الإنسان لا يحس بعظمة الله، إلا إذا نسي نفسه وعظمته.
كنت أطل من شرفتي في الفندق على شارع الرشيد في بغداد، الذي يمثل الحياة ويفسرها ويصور حقيقتها أكثر من تصوير الأدباء وتفسير الفلاسفة، بل إن ساعة واحدة تشرف فيها على شارع الرشيد، أجدى عليك في فهم الحياة من دراسة عشر سنين في هذه الكتب.
لقد كرهت الحياة، وزادها كراهة إلي هؤلاء الناس، فلم يفهمني أحد ولم أفهم أحد. إن حزنت فأعرضت عنهم منشغلا بأحزاني قالوا متكبر، وإن غضبت للحق فنازعت فيه قالوا شرس، وإن وصفت الحب الذي أشعر به كما يشعرون قالوا، فاسق، وإن قلت كلمة الدين قالوا جامد، وإن نطقت بمنطق العقل قالوا، زنديق، فما العمل؟ إليك يا رب المشتكى فما لي في الدنيا بعد أمي صديق!
لقد قرأت عشرات من كتب الأدب واللغة والدين وأنا لا أزال في الثانوية، وكنا نؤم مجالس العلماء في المساجد وفي البيوت، فنجمع إلى علم المدرسة علوم الدين وعلوم اللسان، ونحفظ من بليغ القول، ونروي من طريف الأخبار الشيء الكثير.
ماذا نصنع بهذه الشهادة؟ لقد عرضت على أحد المحامين لما لي عليه من الجرأة بأنه أستاذي في المعهد، ليقبلني عنده متمرنا، فأبى!
وقالوا: أن هناك من يقبل المتمرنين، ولكنه لا يعطيهم شيئاً، يعني أن المتمرنين، ينفقون ماء حياتهم، ويكسرون رؤوسهم وأقدامهم في اشغال المكتب الذي يشتغلون فيه، ليأخذ الأساتذة ثمرة أتعابهم.. لماذا بالله؟ لأنهم أساتذة! ... تشرفنا!
فيا أيها القراء الكرام، إني أعرض شهادتي ولقبي الكريم للبيع برأس المال "الرسوم والأقساط"، أما فسفور دماغي، وأيام عمري، فلا أريد لشيء منه بديلاً، وأجري على الله.
عهدي بنفسي أني إذا أردت الكتابة تناولت القلم فأجريته على القرطاس، فإذا هو يجري قُدماً حتى أكون أنا الذي أرفعه لأقرأ الفصل، وأضع التوقيع، ولكن هذه المرة طال بي التفكير وأنا لا أزداد إلا ابعاطا وخرقا، فألقيت القلم، وعلمت أن قد أرتج عليّ.. والنفس كالسماء، تفتح أبوابها، ويهمي غيثاً، حتى يحيي الله به البلد الميت، وقد يغلقها الله فتظن بالقطر..
أن المدرسة لا تُعلّم التلميذ شيئاً ولكنها تدله على الطريق وترسم له الخُطة، أفلا يجب إذن على المعلمين، أن يدلوا التلميذ على الطريق السويّ والخطة المستقيمة، أفلا يجب عليهم قبل أن يُعلِموه قوانين الحكمة، ومعادلات الكيمياء، ونظريات الهندسة التي سينساها ويجهلها، أن يعلموه من هم أجداده وما هي حضارتهم، وأن يصبوا في نفسه أخلاق العروبة، وآداب الإسلام، وأن يُحببوا إليه العلم، حتى يقبل عليه بلذة وشغف، لا لنيل الشهادة، والنجاة من الامتحان، بل ليستفيد منه في ترقية حياته وحياة أمته، وخدمة بلاده وقومه.. وأن يفهموه "حقائق الحياة" ويعرضوها عليه عارية لا يسترها شيء؟
لا تقولوا إذا سمعتم حديثي: هذا رجل لا يتكلم إلا عن نفسه. فكذلك الأدباء كلهم لا يتكلمون إلا عن أنفسهم، ولكنهم إذ يصفون أحلامها والآمها يصفون أحلام الناس كلهم والآمهم، فهم  تراجمة العواطف، وألسنة القلوب، وصدى الخواطر، حتى ليقول القارئ إذ تمر به آثارهم: ما هذا؟ إن في هذا التعبير عما أحس به، أنه وصف لي وحدي، وما هو له وحده، إنه وصف لكل البشرية.
يا رحمة الله على تلك الأيام. أيام كنت أغلق فيها بابي علي، ثم أقبل على كتبي أجالس فيها العلماء والأدباء، وأجد في حديثهم الصامت لذة ومتاعاً. كنت اقرأ لأني كنت أجهل الحياة، فلما عرفتها لم أعد أطيق قراءة ولا بحثاً ولماذا اقرأ؟ ولماذا أتعلم؟ ولماذا أكون فاضلاً؟ والحياة حرب على أهل العلم والفضل، والناس كالحياة لأنهم تلاميذها.
ولقد وجد في بغداد من الاكبار فوق ما كان يرجو، ووجد اسمه قد سبقه إليها، وحف به قراؤه والمعجبون به، وأسرعوا للسلام عليه والاجتماع به، فلم يكن أبغض إليه وأشد عليه من هذه الاجتماعات، فكان يعرض عنهم ويرتكب في هذا الباب أشد الحماقات حتى إنه ليدع الجماعة من علية القوم في ردهة الفندق ويفر منهم، وما جاءوا إلا من أجله، فيقوم من غير استئذان ولا اعتذار ويذهب إلى غرفته فيعتصم بها. وإنه ليعلم ما في عمله من الجفاء، ولكنه يضطر إليه اضطراراً، فهو يشعر أن جو هذه المجالس ثقيل عليه حتى ليوشك أن يخنقه، ويغدو فيه كمن سُدّ أنفه وفمه، ويلام فلا يدفع عن نفسه لوماً ولا يحاول إنكاراً..
كان يأمل أن يجد لذة في تدريس الأدب، ولكنه لم يكد يمارسه حتى اجتواه وملّه، وعلم أن الاشتغال بالأدب للذة لا يستقيم مع هذا العمل النظامي المستمر، إنه يصبح وفي رأسه فكرة يريد أن يكتب فيها فصلا، فيدركه وقت المدرسة، فيذهب وتذهب الفكرة أو يصبح وهو يكره الكلام ويميل إلى الصمت، يحب أن يفكر فيطيل التفكير، فيراه ملزماً بالكلام لخمس أوست ساعات..
أفيكون ظلماً مني وعدواناً، إذا أعلنت ما أصابني، وشكوته إلى القراء، وهم أصدقائي، لم يبق لي من صديق غيرهم؟
أنهم يقولون أني عنيد، وأني مشاغب، وأني أثير المشاكل، ولست أفهم لهذا كله إلا معنى واحدا، هو أني أؤثر الصدق وأعلنه ولا أفعل ولا أقول إلا ما أطمئن إلى أنه الحق. وهل كان ذنبي أني حميت للفضيلة تمتهن، وللأخلاق تهان، فناضلت عنها وقاتلت وهل كان ذنباً أني غضبت لمحمد أن ينكر نبوته ويجحد رسالته، جاهل غرير، وهل ذنباً أني لا أقول لسواد الليل أنت أبيض مشرق هذه ذنوبي التي خسرت من أجلها صداقات الأصدقاء وكسبت عداوات الرؤساء، وربحت خصومات الجاهلين، وعددت بها من كبار المشاغبين.
صدقوني إذا قلت لكم أني لم آسف على شيء مما صنعت في حياتي أو تركت، أسفي على ترك مصر، ولا أطمع في شيء مطمعي في العودة إليها والحياة فيها، فهي التي سددت خطواتي في طريق الأدب، وهي التي علمتني، وجعلتني أكتب وأنشر في أكرم المجلات.
إن عمادي هذا القلم وإنه لغصن من أغصان الجنة لمن يستحقها، وإنه لحطبة مشتعلة من حطب جهنم لمن كان من أهل جهنم.
لم يدر أنه ودع يوم ودع مصر، مستقبله الأدبي ومجده، ونبوغه واستعداده، وفارق الأرض الخصبة الريانة، يحمل بذوره، لينثرها على الصخر الصلد، ويرجو لها النبات.. وترك القاهرة ورجع البلد الذي يموت فيه الأديب، وكان ذلك أول سطر في صفحة شقائه.
فلا عليك يا دمشق ما صنعت بمن لم يكد يُحبك أحد مثلما أحبك، ولم يصف من جمالك كاتب مثلما وصف، ولا أشاد بذكرك مثلما أشاد، وهذي صديقتنا "الرسالة" أخت "الثقافة" شاهدة على ما يقول. لا يمنُّ ولا يؤذي بالمن، ولكن يُعاتب ويشكو..
هكذا الحب أبداً: مرض في الجسم، وضيق في الفكر، وفرار من حومة الحياة!
يا للخجل! ألا يرى الدنيا إلا في عيني هذا الإنسان؟ أيقنع من السعادة والمجد والعلم والبطولة والدفء والنور والحياة بابتسامة واحدة؟ وبدا له الحب كأسخف شيء يكون.
ما آلمني شيء في الحياة ما آلمتني الوحدة، كنت أشعر كلما انفردت بفراغ هائل في نفسي، وأحس بأنها غريبة عني، ثقيلة علي لا أطيق الانفراد بها، فإذا انفردت بها أحسست أن بيني وبين الحياة صحاري قاحلة، وبيداً ما لها من آخر، فأحاول الفرار ولكن أين المفرّ من نفسي التي بين جنبي، ودنياي التي أعيش فيها؟
إن نفسي عميقة واسعة، أو لعلي أراها عميقة واسعة لطول ما حدقت فيها، وأتامل جوانبها، فتخيفني بسعتها وعمقها، ويرمضني أنه لا يملؤها شيء مهما كان كبيراً، وهذا العالم ضيق علي أو لعلي أراه ضيقاً لاشتغالي عنه بنفسي، وشعوري بسعتها فأراه يخنقني.
أني كلما انفردت بنفسي، فتجرأت على درسها، والتغلغل في أعماقها، بدت لي أرحب وأعجب.
وجدتني غريباً بين الناس فتركت الناس وانصرفت إلى نفسي اكشف عالمها، وأجوب فيافيها، وأدرس نواميسها، وجعلت من أفكاري وعواطفي أصدقاء وأعداء، وعشت بحب الأصدقاء وحرب الأعداء..
وسيظل الناس تحت أثقال العزلة المخيفة حتى يتصلوا بالله ويفكروا دائماً في أنه معهم، وأنه يراهم ويسمعهم، هنالك تصير الآلام في الله لذة، والجوع في الله شبعاً، والمرض صحة، والموت هو الحياة السرمدية الخالدة، هنالك لا يبالي الإنسان ألا يكون معه أحد، لأنه يكون مع الله.
في المدرسة الثانوية الوحيدة في دمشق (مكتب عنبر)، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أبصرت أنور العطار أول مرة أبصرت تلميذاً رقيق العود، دقيق الملامح، أنيق المظهر، شارد النظرات، يمر في ظلال الجدران، حالم الخطى، كأنه طيف يمر على خيال نائم، فسألت عنه من يعرفه، فقال: هذا تلميذ شاعر اسمه أنور العطار، وما كنت أومن بغير شعراء الجاهلية والشعراء الإسلاميين، ولا أرضى لنفسي أن اقرأ شعر المتنبي ولا يرضى ذلك لي مشايخي، ولم اسمع بعد باسم شوقي ولا المنفلوطي فما أبهت لهذا الشاعر الذي اسمه أنور العطار، ولا طلبت صحبته، ولا ظننت أنه سيكون بيني وبينه وصال..
حتى كانت تلك المصادفة المسعدة التي كان لها في حياتي وفي حياته أبلغ الأثر: كانت هذه المصادفة على باب "المدرسة البادرائية"، في ليلة من ليالي رمضان، أيام كان رمضان يزو دمشق حقاً، وكانت تدري دمشق بزيارته وتحتفل بلقياه، وكنت خارجاً منها فواجهت أنور داخلاً إليها، فوقف يحييني ووقف أحييه، وكلمني وكلمته، واتصل الحديث ونحن قيام تحت مصباح الشارع، حتى جاء ذكر شوقي، فأنشدني قصيدة له، قرأها بصوت عذب حالم حنون، فأحسست أنه كان يمس بكل كلمة من القصيدة حبة القلب مني، فأحببته. وأنت تلقى المرء أول مرة فتحس بأنك تحبه أو أنك تكرهه، لا تدري لحبك ولا لكرهك سبباً. سِرُّ ركبه الله في نفس الإنسان.
وصار يُسمعني شعره، فأجد بواكير شاعر متمكن، لا محاولات طالب مبتدئ، قوة في التعبير، وجدّة في التفكير وأبياتاً سائرة.
لم يكن يرانا الناس إلا معاً، ولا يقولون إلا أنور وعلي وعلي وأنور وربما خلطوا فقالوا علي العطار وأنور الطنطاوي..
التلميذ تلميذ ما دام المعلم على منبره، فإن نزل المعلم عن المنبر، وخرج التلميذ من المدرسة، سار كل في طريق، فلم يعد بينهما إلا ذكرى أيام مرت ولن تعود.
والولد يرى في أبيه العبقري مظاهر إنسانيته التي يشترك فيها الناس جميعاً، فتختلط بمظاهر العبقرية التي يمتاز بها عن الناس جميعاً، ومن هنا قالوا: أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه.
التاريخ يعرف طفولة كل لغة وشبابها، ويعرف تدرجها في طريق الكمال، أما العربية فلم يعرفها التاريخ إلا كاملة، لأنها أسن منه.
لقد كتبت مرة أن انكليزي القرن العشرين يقرأ أدب انكليز القرن السادس عشر فلا يفهمه إلا بترجمان، ونحن نقرأ شعراً عربياً من ألف وأربعمئة سنة فنفهمه كما نفهم شعر شعرائنا اليوم؟ فمن أين للعربية هذه المزية؟ وكيف ثبتت برغم النكبات التي مرت بها؟ كيف عجزت الدولة التركية والفارسية التي تعاقبت على بلاد العرب، من أيام الواثق عن أن تقضي عليها؟ بل كيف استطاعت هي أن تقضي على عجمتهم، وتدخلهم تحت لوائها؟ وما هو السر في قوة العربية وثباتها؟
إن السر في هذا الحصن المتين الذي حصنه الله به: القرآن يا سادة، القرآن.
كانت طريقتي في المطالعة أني إذا فرغت من دروس المدرسة دخلت مكتبتنا فتخيرت كتاباً، فأخذته فنظرت فيه، فإذا أعجبني مضيت فيه لا أدعه حتى أتمه وإلا أخذت غيره، لا أستعن على ذلك بمرشد، ولا أستهدي بهاد.
دخلت الجامعة وأنا لا أعرف من العصريين إلا المنفلوطي رحمه الله، وكنت أظنه أبلغ كتاب العصر، ولا أعدل بأسلوب "نظراته" شيئاً حتى وقع في يدي "رفائيل" للزيات، فوجدته كنزاً من أغلى كنوز النثر، وصغرت معه عبرات المنفلوطي حتى صارت كلا شيء ثم عرفت الرافعي في كتابه "تحت راية القرآن" رفع الله به درجاته في الجنة، فعلمت أن الله خلق من هو أبلغ من المنفلوطي.
إن من الكتابة لعلماً، وإن منها لإصلاحا، وإن منها لما ينفع الناس ويدلهم على طريق الخير، كما أن من الكتابة ما هو ثرثرة جميلة، وتسلية خفيفة، ولغوٍ من القول يذهب جفاء، فلينظر ذوو الأقلام ما يأخذون منها وما يدعون.
يسألني كثير من الاخوان، كيف وجدت القضاء؟ إني وجدت القضاء راحة جسم وتعب بال، وعلو منزلة وقلة مال، واكتساب علم، وازدياد أعداء، وحملاً كبيرا نسأل الله السلامة من سوء عاقبته: أما أنه "راحة جسم" فذلك أني كنت في التعليم أتكلم ولا أسمع، فصرت الآن أسمع أكثر مما أتكلم. أما "تعب البال" فلأني أحمل على عاتقي حقوق الناس، واحكم في الأعراض وهي أثمن من المال.
لقد كنت أشكو الغربة وأضيق بها، فصرت أشكو فقدها. ويا حبذا الغربة، وأنعم بها مثيراً للشعور، موقظاً للهمم.
لو كان الأدب الواقعي أن تسرد كل ما "وقع" لك لكان الناس كلهم أدباء، ولكن الأدب الواقعي أن تأتي بالصورة الجميلة، قد صقلها الطبع وبرقشها الخيال، وزانتها العبارة الصحيحة، والسبك الدقيق، لكنك لا تخرج فيها عما "يمكن أن" يقع.
لقد مر علي زمان كان أحلى أماني فيه أن أسير فيشير إلي الناس بالأيدي يقولون: هذا علي الطنطاوي، وأن أعلو خطيباً كل منبر وأن أجد اسمي في كل صحيفة، وكان قلبي يتفتح للجمال، ويستشرف الحب، فلما جربت هذا كله، وذقت لذته، صار كل ما أرجوه أن أتوارى عن الناس، وأن أمشي بينهم فلا يعرفني منهم أحد.
أن الناس إذا سمعوا خبراً أو قرؤوا قصة فكروا في ذلك لأنفسهم، وأنا إن سمعت أو قرأت فكرت كيف أبني على ذلك مقالة أو أصوغ منه قصة، وإن أرى الناس مشهداً من مشاهد الطبيعة أو فلماً من أفلام السينما استمتعوا به لأنفسهم، وإن رأيته أنا فكرت كيف أصفه لأمتع به القراء والمستمعين، وإن فرحوا أو حزنوا، كان فرحهم وحزنهم لهم، وفرحي أنا أو حزني للناس، أعمل من أجل ذلك عمل المجانين.
أقف في الطريق لأدون فكرة طرأت علي تصلح لحديث أو مقال، وأكتب في زحمة الترام أن ذكرني الترام بشيء يصلح لحديث أو مقال، وإلى جنب سريري الورق والقلم مربوط بالمصباح، فكلما خطرت لي فكرة أضأت المصباح وكتبت، ويقول مدرسوا الأدب أن الأفكار تجيء في المناظر الجميلة، في الرياض حيث تزقزق العصافير وتهدر السواقي، والمرء مستريح نشيط، أما أنا فلا تجيئني الأفكار إلا في الفراش وأنا محطم من النعاس، فأنا أُشعل النور كل ليلة واطفئه عشرين مرة.
أقسم لكم بالله أني حين أجد في برامج الإذاعة، ما يمنع من حديثي، حفلة أو مباراة أو شبهها أفرح كما يفرح التلميذ الذي يجد المدرسة مغلقة لأن اليوم عيد، لقد لبثت ثلث قرن وأنا أكتب، أكتب دائماً حتى زاد ما طبع من كتاباتي على خمسة عشر ألف لم أعد منها الخطب التي خطبتها ولم أكتبها، وأنا أحس مع ذلك بأن عندي شيئاً لم أقله، ولا أجد الوقت الكافي لأقوله هو العمل الأدبي الخالد الذي أهم به وتشغلني عنه هذه الأحاديث وهذه المقالات.
ما يسميه القراء أسلوبي في الكتابة ويدعوه المستمعون طريقتي في الإلقاء، شيء منّ الله به علي، لا أعرفه لنفسي، لا أعرف إلا أني أكتب حين أكتب، وأتكلم حين أتكلم، منطلقاً على سجيتي وطبعي، لا أتعمد في الكتابة اثبات كلمة دون كلمة، ولا سلوك طريق دون طريق، ولا أتكلف في الالقاء رنة في صوتي ولا تصنعاً في مخارج حروفي.
ولقد قرأت في المدح لي ما رفعني إلى مرتبة الخالدين، ومن القدح في ما هبط بي إلى دركة الشياطين، وكرمت تكريما لا أستحقه وأهملت حتى لقد دعي إلى المؤتمرات الأدبية وإلى المجالس الأدبية الرسمية المبتدئون وما دعيت منها إلى شيء، فألفت الحالين، وتعودت الأمرين، وصرت لا يزدهيني ثناء ولا يهز السب شعرة واحدة في بدني.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق