الخميس، 24 أكتوبر 2013

رواية ساق البامبو


رواية ساق البامبو

للمؤلف: سعود السنعوسي

دار النشر: الدار العربية للنشر ناشرون

لم تشأ أمي أن تناديني، عندما كنت هناك، باسمي الذي اختاره لي 

والدي حين ولدت هنا.

رغم أنه اسم الرب الذي تؤمن به، فإن عيسى اسم عربي، وهو يعني 

واحد بالفلبينية، ومن دون شك أن الأمر سيبدو مضحكاً حين يناديني 

الناس برقم بدلاً من اسم!

اختارت والدتي لي اسم "خوسيه" تيمناً بخوسيه ريزال، بطل الفلبين

القومي، الذي ما كان للشعب أن يثور لطرد المحتل الأسباني لولاه.

خوسيه أو عيسى، ليست مشكلتي مع الأسماء أمراً ملحاً للحديث حوله، ولا أسباب

التسمية، فمشكلتي ليست في الأسماء، بل بما يختفي وراءها.

جاءت والدتي للعمل هنا، في منزل من أصبحت بعد زمنٍ جدتي، في منتصف الثمانينات،

تاركة وراءها دراستها وعائلتها..

في حين كانت أختها تحلم بشراء حذاء أو فستان جديد، كانت أمي لا تحلم بأكثر من أن
تقتني كتاباً بين وقت وآخر..

تقول أمي: "قرأت الكثير من الروايات، الخيالية منها والواقعية. أحببت سندريلا وكوزيت

بطلة البؤساء، حتى أصبحت مثلهما، خادمة، إلا أنني لم أحظَ بنهاية سعيدة كما حدث

معهما".

ليس المؤلم أن يكون للإنسان ثمن بخس، بل الألم، كل الألم، أن يكون للإنسان ثمن.

بلغت والدتي عامها ال٢٠ وأصبحت في نظر جدي الاستثمار الأمثل للعائلة، في الوقت

الذي أصبحت فيه شقيقتها آيدا عاطلة عن العمل..

جاء إلى منزل والدتي أحد جيرانهم يحمل قصاصة من جريدة فيها إعلان من وكيل في

مانيلا يعلن عن استعداده لاستقبال طلبات الراغبات في العمل في الخارج، ليتم توزيعهن

على مكاتب العمالة المنزلية في دول الخليج..

تقول والدتي: أخبرني الموظف بأنني سأعمل في الكويت، وكانت تلك المرة الأولى التي

أسمع بها عن هذا البلد.
جاءت والدتي للعمل هنا، تجهل كل شيء عن ثقافة هذا المكان. الناس هنا لا يشبهون

الناس هناك، الوجوه والملامح واللغة، حتى النظرات لها معانٍ أخرى تجهلها. والطبيعة

هنا، لا تشبه الطبيعة هناك، حتى الشمس تقول: شككت في بادئ الأمر أنها التي أعرف.

عملت والدتي في بيت كبير، تسكنه أرملة في منتصف الخمسينات مع ولدها البكر

وبناتها الثلاث، هذه الأرملة أصبحت جدتي في ما بعد.

كان بيتاً ضخما ذلك الذي عملت فيه أمي، مقارنة مع البيوت هناك، بل إن الواحد منها

يتسع لعشرة بيوت من تلك التي جاءت منها..

ما كدت أبلغ العاشرة من عمري حتى بدأت والدتي تخبرني بتلك الحكايات التي مضت

قبل مولدي، كانت تمهد لي درب الرحيل.

عندما بدأت النطق كانت تلقنني كلمات عربية، وعندما كبرت كانت حريصة كل الحرص

 على أن تُحببني بأبي، ذلك الذي لم أره.


كان يوماً من أيام صيف ١٩٨٧، أي بعد مرور عامين على وجود والدتي هنا، كان أفراد

البيت، الذي تعمل فيه كخادمة، يقضون عطلات نهاية الأسبوع في شاليههم الخاص،

والذي لا يزال قائماً حتى الآن، تجتمع فيه العائلة بين حينٍ وآخر. ذهبت جدتي وعماتي

بصحبة السائق الهندي على أن يلحق بهم والدي مصطحبا الطباخ والخادمة، لحق بهم

في وقت لاحق لكنه لم يذهب إلى الشاليه مباشرة تقول والدتي سلك والدك الممر

الصغير باتجاه غرفة خارجية، كان الرجل بانتظارنا، يبدو عربياً، له لحية كثة، نادى الرجل

على رجلين آخرين من سكان البيت على ما يبدو، لم نمكث طويلا، جلسنا أمام الرجل

الذي التفت إلي يسأل، هل سبق لك الزواج؟ أجبته بالنفي، سأل والدك بالعربية، أجاب

والدك بالموافقة، التفت إلي ثانية يسأل: هل تقبلين براشد زوجاً؟ حرر ورقة بعد

موافقتنا.
أثناء عودتنا إلى السيارة سألته بريبة، أبهذا فقط نصبح زوجين؟ هل أنت متأكد؟ أخرج

الورقة وقال هذه تؤكد يمكنك الاحتفاظ بها.

سألته عن السيدة الكبيرة والفتيات، أجاب دونما اهتمام: كل شيء في أوانه. لذت

بصمتي، لم أكن مقتنعة بأننا زوجين لكنني سلمت بالأمر.

انقطع والدي عن منزل جدتي طوال فترة حمل والدتي بي، كان عنيداً رغم شوقه

لوالدته، تقول والدتي كنت على يقين بأنه يشعر بالندم وإن أبدى عكس ذلك، لم يزرها

في تلك الأثناء قط، ربما خجلا، ولكنه حاول الاتصال بها..

كان والدي على يقين أن مجيئي إلى هذا العالم كفيل بتغيير جدتي، وأنها ستأخذني إلى

حضنها ما أن تراني محمولاً بين يديه..

حملني والدي بين يديه، وأخذ يتفحص وجهي طويلا، عله كان يبحث عن شيء واحد فقط

يُشبهه، كانت ملامحي خليطا من أمي وخالتي وجدي..

تغير مزاج والدك كثيرا بعد زيارته لمنزل السيدة الكبيرة، تقول والدتي والحزن باد على

ملامحها، أصبح قليل الكلام، دائم التفكير.

ما إن استخرج أبي شهادة ميلاد لي باسم عيسى - على اسم جدي - حتى اتصل بوكالة

سفر، طالباً منهم حجز مقعد على أي طيران يقلنا..

إلى مانيلا، شريطة ألا يكون ذلك عبر الخطوط الكويتية. وبعد أيام كان الرحيل الثاني،

ولكن هذه المرة من بلد والدي إلى بلد والدتي.

إن الذي لا يستطيع النظر وراءه، إلى المكان الذي جاء منه، سوف لن يصل إلى وجهته أبدا.
 "خوسيه ريزال"

من الكويت، سافرنا إلى الفلبين، لنعيش في أرض جدي ميندوزا الذي نسبت إليه اسمياً،
لأصبح هوزيه ميندوزا.

نشأت في أرض لا تتجاوز مساحتها ألفي متر مربع، يقوم عليها منزلان صغيران، أحدهما

الكبير مقارنة مع الآخر، يتكون من طابقين كان سكناً لنا تكدسنا فيه، والدتي وأنا، خالتي

آيدا وميرلا، خالي وزوجته وأبناؤه...

كانت عائلة أمي تعتمد بشكل أساسي على ما تبعثه من مال نهاية كل شهر عندما كانت

تعمل خادمة، وهو ما جعل وضعهم يتحسن كثيرا..

أهملت والدتي تربيتي دينياً، على يقين بأن الإسلام ينتظرني مستقبلا في بلاد أبي،

ورغم أن أبي همس بنداء صلاة المسلمين في أذني اليمنى فور ما حملني بين يديه بعد

مولدي، فإن ذلك لم يمنع والدتي، فور وصولنا من أن تحملني إلى كنيسة الحي الصغيرة

ليتم تغطيسي في الماء المقدس في طقوس تعميدي مسيحيا كاثوليكيا، لم يكن يقينها
بعودتي قد ترسخ في ذاتها بعد..

لو أنهما اتفقا على شيء واحد، شيء واحد فقط بدلاً من أن يتركاني وحيدا أتخبط في

طريق طويلة باحثاً عن هوية واضحة الملامح اسم واحد التفت لمن يناديني به، وطن

واحد أولد به، أحفظ نشيده، وأرقد مطمئناً في ترابه، دين واحد أؤمن به..

كنت إذا ما انبهرت لمشاهدة إعلان لسيارة باهظة الثمن، تقول والدتي: ستحصل على

واحدة مثلها يوما ما، إذا ما عُدت إلى الكويت.

وإذا ما أشرت نحو شيء في السوق لا تستطيع أمي شراءه، تقول: في الكويت هناك،

سيشتري لك راشد واحداً مثله.

كنت أتخيلني مثل آليس، أتبع وعود أمي بدلا من الأرنب، لأسقط في حفرة تفضي إلى

الكويت، بلاد العجائب، أقنعتني أمي أننا نعيش في الجحيم، وأن الكويت هي الجنة التي

أستحق.

انتهت الحرب في بلاد أبي في فبراير١٩٩١ وبالرغم من انتهائها لم تردنا منه أي رسالة،

اتصلت والدتي بمنزل جدتي مرات عدة، ولكنها لم تكن تحصل على شيء سوى الشتائم

والصراخ اللذين يسبقان النغمة المعتادة: طوط.. طوط! أوصت ممن يعملون في الكويت

أخبار أبي، إلا أن خبرا واحدا لم يردها، سألت عنه في سفارة بلده في مانيلا، ولكن لا

تجاوب من قبل العاملين فيها...

لم تستقر أمي طويلا، مع تزايد احتياجاتنا، حتى شرعت في التفكير بالسفر من جديد.

سافرت أمي للعمل في البحرين وتركتني عند خالتي.

ما عادت الكويت تمثل لي شيئاً منذ أخبرنا إسماعيل الكويتي عن وقوع أبي أسيراً في

الحرب، انصرفت فكرة العودة إلى بلاد أبي من تلقاء نفسها. وبالرغم من ذلك، ما انفكت

أمي تردد بين حين وآخر سيتحقق الوعد...

كانت زيارتي الأولى لكاتدرائية مانيلا، بصحبة ماما آيدا التي أصرت أن أقوم بطقس

التثبيت، وفقاً للأسرار السبعة المقدسة، في الكاتدرائية بدلاً من القيام به في كنيسة

حينا الصغيرة، حيث جرى تعميدي قبل سنوات، حيث جرى تعميدي قبل سنوات، طلبت

 ماما آيدا من خالي بيدرو وزوجته الحضور ليشهدا الطقس وليكونا والدي بالمعمودية

بالإضافة إليها، وافق الاثنان وبقيت أمي على رأيها: "سيعتنق الإسلام عاجلاً أو آجلاً"، ولم
تحضر.

الشك في الله يعني الشك في ضمير المرء، وهذا يؤدي إلى الشك في كل شيء . "خوسيه ريزال"

كنت في السادسة عشر عندما قررت ترك المدرسة، فجعت أمي، ولكنني قد اتخذت

قراري: "سأبحث عن عمل".

لم يقف إلى جانبي، سوى خالي بيدرو، أقرضني مبلغاً من المال، وقدم لي هاتفاً محمولا،
"ابق على اتصال"، قال لي.

رتب لي خالي لقاءً مع تاجر موز يعرفه، قال إنه سوف يقوم بمساعدتي، وضع كفه على

رأسي قائلاً: اسمع هوزيه.. لا أحب اسداء النصح وأنا في أمس الحاجة له، ولكن، "حتى

تذلل مصاعب العمل، حسن علاقتك برب العمل، وكي تذلل مصاعب الحياة، حسن

علاقتك بربك".

أمام عربة موز، في مانيلا، كنت أقضي نهاري كله، أحصل من عملي هذا على عمولة بيع

وحسب، تتفاوت بين يوم وآخر لكنها لا تساوي شيئاً.

بعد اختبار عملي في المركز الصيني، قال لي المسؤول: لا بأس، ولكن هذا لا يكفي

.. يتطلب الأمر أن تجتاز تدريباً عملياً في التدليك الصيني التقليدي، التايلندي، التدليك

الجاف، والتدليك بواسطة الحجارة الساخنة..

وقعت عقدا مع المركز الصيني فور اجتيازي التدريب بنجاح، ينص على العمل مقابل

راتب شهري بالإضافة إلى عمولة نظير الخدمة لمقدمة، والأهم ما لم يذكر في العقد،

البقشيش الذي يدسه العملاء في يدي إذا ما نالت الخدمة استحسانهم..

قبل أن أتمم الشهر السادس في وظيفتي الجديدة، أخبرني المسؤول في المركز الصيني

بضرورة البحث عن عمل جديد، وبأنه يمنحني أسبوعاً أخيرا في العمل لدى المركز قبل

أن يتم انتهاء عقدي معهم. ما أن أتممت اسبوعي الأخير حتى خرجت بوظيفة جديدة، في

 أحد منتجعات جزيرة بوراكاي، وفرها لي أحد عملائي في المركز..

كانت الأبواب في بلاد أمي قد بدأت توصد في وجهي، الواحد تلو الآخر، ولم يتبق سوى

أبواب مواربة، بالكاد أتسلل من أحدها إلى ما يضمن لي الاستمرار في العيش زمناً

مؤقتاً.

في عملي هذا رأيت الكويتيين لمرة ثانية، بعد لقائنا القديم بإسماعيل الكويتي. أزواج

جدد، أو مجموعات شبابية، جاؤوا للجزيرة كم أحببتهم، وكم كنت أطير فرحاً إذا ما علمت

أن المركب يضم شباباً كويتيين.

في البدء كنت أميز السياح العرب، وفيما بعد أصبحت أميز الكويتيين من بينهم، "لأنني

واحد منهم" كنت أحاول أن أقنع نفسي.

عم أنا جوزافين، قالت أمي للمتصل، ثم انتصبت واقفة والدهشة تعلو وجهها: كيف لا

أتذكرك! بالطبع أتذكرك يا غسان!

أتصور أن الوقت قد حان لعودته.. قال غسان بصوت غليظ.. هذه رغبة راشد منذ خمسة

عشر عاماً.

بعد حوالي ستة شهور من الترتيبات بعد مكالمة غسان استلمت جواز السفر، تملكني

الارتباك بعد أن أصبح سفري أمراً محتوماً..!

تسلط البعض لا يمكن حدوثه إلا عن طريق جبن الآخرين. "خوسيه ريزال"

مطار كئيب ذلك الذي حطت به الطائرة، الوجوه تشبه مطارها، انتشر الناس في طوابير

يختمون جوازاتهم، وفي الأعلى لافتات كتب علب بعضها مواطنو دول مجلس التعاون

الخليجي، وعلى الآخر، مواطنو الدول الأخرى، وقفت في حيرة امام هذه الطوابير، هل

أتوجه للطوابير التي يقف فيها الفلبينيون الذين كانوا معي في الرحلة؟ أم تلك الطوابير

التي يقف فيها أُناس لا يشبهونني؟

واحد تلو الآخر، يختم الموظف جوازاتهم، إلى أن جاء دوري دسست كفي في جيب

البنطلون، وقبل أن أخرج منه الجواز صرخ بي بطريقة فظة صعقتني، أشار بيديه نحو

الطابور الآخر، حيث يقف الفلبينيون، قال كلاماً لم أفهمه.. في الطابور الآخر قال لي شاب

 فلبيني: كنت تقف في المكان الخطأ، ذلك الطابور خاص بالكويتيين ومواطني دول

الخليج، هززت رأسي شاكراً وأنا أتمتم في نفسي رفض وجهي قبل أن يرى جواز سفري!

في صباح اليوم التالي، مرتعش الجسد والعرق يتصبب من جسدي، أجلس إلى جوار

غسان، نظر إلي ما ان أوقف السيارة أمام بيت جدتي عيسى ما بك؟ عد بي إلى الجابرية

أرجوك! كرهت نفسي حين عجزت عن ردعها من أن تبدو بهذا الضعف، بكيت كما طفل

يوشك أن يلقى في حفرة مظلمة، أخذ يربت على كتفي، هون عليك، ابق هنا... سأقابل

الخالة غنيمة لوحدي.

كيف تبدو ملامح ابن الفلبينية؟ سألت جدتي غسان في ذلك اللقاء، أجابها: فلبينية..


رن جرس هاتف غسان ، نظر إلى شاشة الهاتف قائلاً: اتصال من أهلك.. سألت بلهفة،

أمي أم ماما آيدا؟ لم يُجب. انتهت المكالمة "اسمع يا عيسى، سوف تذهب لتعيش في

منزل جدتك" قفزت عالياً ملوحاً بقبضتي yes! شعرت أن الأرض تهتز أسفل قدميّ.


كل هذا لي أنا؟! غرفة فوق مستوى أحلامي، لا حاجة لي بالخروج من هنا. لم أصدق ما

رأيته، غرفة ضعف حجم غرفتي القديمة، سرير يكفي لشخصين، تلفاز بشاشة كبيرة،

لابتوب، ثلاجة مدفأة، سألتني خولة: هل أنت سعيد، أجبتها: أكثر مما تتصورين.

بدأت بالتقاط السهل من الكلمات العربية، أفهم بعضها واستخدمه أحياناً على الطريقة

التي يتفاهم بها الخدم مع أفراد البيت.

في فصل الصيف تقضي جدتي عطلات نهاية الأسبوع، في الشاليه، كانت تسمح لي

بمرافقتها إذا ما علمت أن أحد من أحفادها لن يصحبنا..

لم تكن جدتي لتوافق على احتكاكي ببقية أحفادها، ولا أن يعرفوا شيئا من أمري، لأن

السمكة الفاسدة، كما تقول، تفسد بقية الأسماك.

في الرابع والعشرين من سبتمبر ٢٠٠٦ بدأ شهر رمضان، وأي معاناة واجهتها في هذا

الشهر، الجوع والعطش و.. الناس.

على اعتبار أنني مسلم أمام أهلي، كان علي أن أصوم، ولأنني أريد أن أمارس أي طقس

يقربني من الله، وإن كنت أجهل ما هو ديني..

إذا ما أصابني الضجر في بيت جدتي، وكثيرا ما يفعل، كنت ألتقي الخدم، خلسة، في

المطبخ نتبادل الحديث بحذر.

إذا ما نظرت إلى حال الخدم في البيت أشفق على أمي كيف احتملت كل ذلك قبل

سنوات، ولكن، مقابل مصير كان ينتظرها في بلادها لابد أن قسوة العمل في بلاد أبي

تُعد ترفاً. الخدم يعملون منذ السادسة صباحاً وحتى العاشرة ليلاً.

انتهى شهر رمضان، جاء عيد الفطر، يومٌ أول أمضيته خلف الستارة في غرفتي أتلصص على زوار 
عائلتي المتورطة بي.

لم يسأل عني أحد، ولم أتلق تهنئة سوى من غسان عبر رسالة هاتفية يقول فيها: "عيد

مبارك".

حياة ليست مكرسة لهدف، حياة لا طائل من ورائها، هي كصخرة مهملة في حقل بدلاً من

أن تكون جزءاً من صرح.

الأديان أعظم من معتنقيها. هذا ما خلصت إليه.

العزلة زاوية صغيرة يقف فيها المرء أمام عقله، حيث لا مفر من المواجهة. وعقلي كاد

يضمر لولا افراطي في استخدامه أثناء عزلتي.

لأول مرة أشعر باللا جدوى. حلمي القديم.. الجنة التي وُعدت بها... سفري .. المال الذي

بات يفيض عن حاجتي... ماذا بعد؟

في بلاد أمي كنت لا أملك شيئاً سوى عائلة. في بلاد أبي أملك كل شيء سوى ... عائلة.

كانت فكرة السفر إلى الفلبين لزيارة بيتنا قد بدأت تتقافز داخل رأسي. رفضت أمي

الفكرة رغم اشتياقها لي، طلبت مني البقاء في الكويت وقتا أطول. لست أدري إن كانت

ترجو بقائي من أجلي أم من أجل العائلة التي أصبحت بحال أفضل لقاء ما أرسله من

أموال.

الكلمات الطيبة لا تحتاج إلى ترجمة، يكفيك أن تنظر إلى وجه قائلها لتفهم مشاعره، وإن

كان يحدثك بلغة تجهلها.

أمام ثلاث خيارات كنت. إما أن أكره نفسي لما جلبته لعائلتي، أو أن أكره عائلتي لما

فعلته بي أو أن أكرههم فأكرهني لأنني منهم.

ضاقت الكويت فجأة، أصبحت بحجم غرفة إبراهيم، ضاقت أكثر، أصبحت بحجم علبة

ثقاب، لم أكن أحد أعوادها. تذكرت كلمتهم الكويت صغيرة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق