الخميس، 9 يناير 2014

كتاب منطق ابن خلدون

https://mail.google.com/mail/u/0/images/cleardot.gif
منطق ابن خلدون، د. علي الوردي، الورّاق للنشر، الطبعة الثالثة ٢٠١١
محتويات الكتاب: رأي المؤلف في ابن خلدون، ظهور السفسطة، طفرة ابن خلدون، ابن خلدون ومكيافللي ونظرة الناس إليهما
خصائص المنطق القديم "صورية المنطق، استنباطية المنطق، شخصية المناطقة، مبادئ المنطق الأرسطي، مبدأ السببية ومبدأ الماهية"، المنطق الأرسطي في الإسلام، ابن خلدون والمنطق الأرسطي، ابن خلدون ومنطق الفكر، ابن خلدون ومنطق الفقهاء، لغز الطفرة الخلدونية، ابن خلدون والفلسفة، في سبيل علم اجتماع عربي.
الكتاب يقع في "٣١٧" صفحة من الحجم الكبير من غير الفهارس والمراجع.


إن بحثي سيدور حول ناحيتين من نظرية ابن خلدون. الأولى دراسة المنطق الذي جرى عليه تفكير ابن خلدون عند إنشاء نظريته، والثانية دراسة العوامل الفكرية واللافكرية التي ساعدته على إنشائها.
رب معترض يقول: ما لي أراك مشغولاً با ابن خلدون أو غيره من المفكرين القدماء، أليس في الأفكار العلمية الحديثة ما يغنيك عن ذلك؟
إن هذا قول طالما سمعته من أفواه الكثيرين، وهو لا يخلو من حق، غير أني أرى أن البحث في الأفكار القديمة قد ينير لنا أحياناً سبيل الحياة الجديدة، وأقول هذا في شأن أفكار ابن خلدون بصفة خاصة.
فالرجل كان يعيش في مرحلة فكرية تشبه من بعض الوجوه هذه المرحلة التي نعيش فيها نحن العرب الآن.
إن كثيراً من المتعلمين بيننا لا يزالون ينظرون في أمور الحياة بمثل النظرة التي كان ينظر إليها الفلاسفة القدامى، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، إذ هم يهملون ما في الحياة من واقع صارخ، ويحلقون في سماء المنطق التجريدي والأفكار الطوبائية، غير عالمين بما حدث في العصر الحديث من ثورة على ذلك المنطق وانتقاد له.
ظهور السفسطة: ظهر تجاه الفلاسفة مفكرون آخرون  كانوا أقرب إلى منطق الحياة الواقعية منهم، وهم الذين اشتهروا في تاريخ الفلسفة باسم السفسطائيين.
وكان من رأيهم أن ليس في الدنيا حقائق مطلقة، إنما هي حقائق نسبية، فما يراه بعض الناس حقاً قد يراه البعض الآخر باطلاً، والإنسان إذن هو مقياس الحقيقة في نظرهم.
لقد كان من المتوقع أن يتطور الفكر الاجتماعي على يد هؤلاء إلى غير ما تطور إليه على يد الفلاسفة، ولكنهم مع الأسف أخفقوا في معركتهم، وانتصر عليهم الفلاسفة، حتى أصبح اسم السفسطة في النهاية لقباً يراد به الذم ويقصد به المغالطة والتفكير الملتوي.
يبدو أن الفلاسفة تمكنوا من هذا الانتصار الساحق على السفسطة لأنهم كانوا سادة من أصحاب النفوذ والمنزلة العالية في المجتمع، بينما كان السفسطائيون معلمين غرباء يحصلون قوتهم عن طريق التعليم.
كان المفكرون يعتقدون بأن الواجب يقضي عليهم أن ينصحوا المجتمع لكي يتخلص من واقعه السيئ، لا أن يصفوا ذلك الواقع ويكتشفوا قوانينه.
فالمجتمع في نظرهم مريض، ولا سبيل لعلاج مرضه إلا بتلقينه الأفكار الصالحة، فإذ عرف المجتمع تلك الأفكار سار عليها، وبهذا ينال السعادة والخير.
من رأي ابن خلدون أن المجتمع لا يمكن علاجه بهذه الطريقة. فالمواعظ المجردة لا تؤثر في الناس لأنهم يسيرون في حياتهم حسبما تقتضيه طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه.

خصائص المنطق القديم: أخذ المفكرون في العصور الوسطى ينظرون إلى منطق أرسطو نظرة إعجاب وتقديس، مما حدا بهم إلى اعتبار القالب الذي صبه فيه أرسطو قالباً نهائياً لا يجوز تغييره أو التشكيك في صحته.
أهم صفتين رئيسيتين تميز بها المنطق الأرسطي:
١- منطق صوري ٢- منطق استنباطي
منطق صوري: أي أنه يهتم بصورة الشيء ويهمل مادته.
منطق استنباطي: أي يبدأ البحث بالاعتماد على كليات عقلية عامة، ثم يستنبط منها النتائج الجزئية الخاصة.
وأهم طريقة يستخدمها المنطق في الاستنباط هي ما يسمى بالقياس.
والقياس يتألف عادة من ثلاثة أجزاء هي المقدمة الكبرى والمقدمة الصغرى والنتيجة.
ولتوضيح ذلك نأتي بالمثال الشائع الذي يمثر وروده في كتب المناطقة، وهو كما يلي:
كل إنسان فانٍ .. مقدمة كبرى.
سقراط إنسان .. مقدمة صغرى.
إذن سقراط فانٍ .. نتيجة.
لم يقتصر تأثير القياس المنطقي على المجال العلمي فقط بل تعدى أثره إلى الناحية الشخصية في حياة أصحابه.
ومن الأخطاء التي يتورط فيها المناطقة أحياناً كثيرة، من جرّاء اعتمادهم الكلي على القياس المنطقي، أنهم يتسرعون تكذيب كل خبر غريب غير مألوف لديهم.

للمنطق الأرسطي ثلاثة مبادئ:
١- مبدأ العقلانية ٢- مبدأ السببية ٣- مبدأ الماهية
مبدأ العقلانية: يعني الثقة المطلقة بالعقل وبمقدرته على اكتشاف الحقيقة.
فقد كان الفلاسفة يعتقدون أن هناك طريقين للمعرفة لا ثالث لهما هما الحس والعقل.
أما الحس فهو معرض للخطأ دائماً، ولم يبق إذن من طريق للمعرفة الصحيحة إلا طريق العقل.
كان فلاسفة الإغريق بصفة خاصة يحتقرون كل ما من شأنه استخدام الحواس.
وهو احتقار مرجعه في أغلب الظن إلى احتقار الجسم بالنسبة للعقل، حيث كانوا يعتقدون بأن الجسم كتلة مادية فانية بينما العقل كائن روحاني خالد.
ولهذا كانوا يقدرون من يستخدم عقله أكثر مما يقدرون من يستخدم جسمه.
مبدأ السببية: معناه أن جميع حوادث الكون تخضع لقانون صارم هو تعاقب السبب والنتيجة، أو العلة والمعلول.
وخلاصة ما أريد قوله في مبدأ السببية أن المبدأ قد يكون صحيحاً في أساسه الطبيعي، ولكن بعص المفكرين قد يتمسكون به إلى درجة تجعلهم يكذبون الوقائع المشهودة لمجرد أنهم لا يعرفون تعليلاً مادياً لها.
مبدأ الماهية: يقول هذا المبدأ بأن للشيء ماهية ثابتة لا يمكن أن تتغير أو تتناقض مع نفسها.
فلاسفة العصر الحديث انتقدوا المنطق الأرسطي في سبيل الدعوة إلى منطق جديد هو منطق العلوم التجريبية والدراسات الواقعية، أما الذين انتقدوه من المسلمين فقد فعلوا ذلك في الغالب من أجل الدفاع عن العقيدة الدينية والاحتفاظ بسلامتها في النفوس.
وقد نستطيع أن نستثني منهم في ذلك مفكراً واحداً هو ابن خلدون، فقد حاول نقد المنطق لكي يبين قصوره عن فهم الحياة الاجتماعية كما هي عليه في الواقع.
وابن خلدون في هذا يُشبه فلاسفة العصر الحديث شبهاً لا يُستهان به.
وأهم من تأثر بهم ابن خلدون من هذه الناحية، فيما اعتقد، هم الغزالي وابن تيمية.

ابن خلدون والعرب:
ذكر ابن خلدون العرب في بعض فصول المقدمة فوصفهم فيها وصفاً يبدو عليه الذم والانتقاص.
ففي أحد الفصول قال: إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب.
وفي فصل آخر قال: إن العرب أبعد الناس عن سياسية الملك.
وفي فصل ثالث قال: إن العرب يستنكفون عن طلب العلم وانتحاله.. الخ
وقد دفعت هذه الأقوال بعض الباحثين إلى القول بأن ابن خلدون كان شعوبياً بربرياً أراد بها الانتقاص من شأن العرب وذمهم ذماً مقذعاً.
وقد ذهب الأستاذ ساطع الحصري في رأيه بأن ابن خلدون لم يكن يقصد بأقواله المذكورة العرب إنما قصد بها البدو. وأورد الحصري قرائن لغوية وتاريخية واجتماعية عديدة لتأييد رأيه.
وأميل إلى تأييد الحصري في كثير مما جاء به في هذا الصدد. فابن خلدون عند ذكره لمساوئ العرب إنما قصد بها مساوئ البداوة.
ولكني أريد أن أقف هنا قليلاً متسائلاً: هل أن لفظة "العرب" في اصطلاح ابن خلدون مرادفة ومساوية في معناها للفظة "البدو"، أم أنهما مختلفان في المعنى بعض الاختلاف؟
إن هذا سؤال حيرني مدة طويلة ثم عثرت مؤخراً على فقرات في مقدمة ابن خلدون مما جعلني استقر على رأي فيه، وهو رأي يخالف من بعض الوجوه رأي الحصري.
ومما جلب انتباهي على أي حال أن ابن خلدون حين يذكر صفات البداوة في محاسنها ومساوئها يأتي بها تحت اسم "البدو"، ولكنه حين يذكر صفات البداوة في مساوئها فقط يأتي بها تحت اسم "العرب".
يتضح من هذا أن ابن خلدون حين يذكر العرب لم يكن يقصد بهم البدو بوجه عام، إنما كان يقصد بهم النموذج الأقصى للبداوة، وهو النموذج الذي يكون أشد من غيره بعداً عن خصائص الحضارة كالعلم والصناعة والعمران.
رأي ابن خلدون في المُلك:
اعتاد الكثيرون من الفقهاء على التفريق بين الخلافة والملك.
فاعتبروا الخلافة خيراً والملك شراً، وذلك على دأبهم في التجريد المنطقي الذي يضع الأمور في صنفين متضادين لا ثالث لهما.
أما ابن خلدون فهو يرى في الملك رأياً آخر. فالملك في رأيه لا يجوز أن يكون شراً مذموماً على وجه مطلق. إنه كغيره من ظواهر الحياة الاجتماعية قد يكون خيراً أو شراً تبعاً للناحية التي ننظر منها إليه.
طاعة السلطان:
الخروج على السلطان الظالم كان أمراً مقبولاً إلى حد ما في صدر  الإسلام.
وهنا ابن خلدون يبدي رأياً يخالف فيه الجميع. إنه يرى أن المسألة ليست مسألة تحريم أو جواز من الوجهة النظرية المجردة، بل هي مسألة واقعية اجتماعية تتصل بالعصبية. فمن كانت لديه العصبية الكافية التي تمكنه من الثورة والتغلب على السلطان جاز له الخروج عليه، أما من كان ضعيفاً من الناحية الاجتماعية وليس له عصبية كافية تدعمه في خروجه، فالأولى به الجلوس في بيته والتجنب عن إثارة الفتنة والفوضى وسفك الدماء.
أننا في استعراضنا لآراء ابن خلدون، لا نعني أننا نؤيدها أو نؤمن بصحتها. ونحن لا يجوز أن نغالي في تقدير ابن خلدون إلى الدرجة التي نعتبر فيها جميع آرائه صحيحة ليس فيها خطأ أو نقص.
الواقع أن ابن خلدون، كغيره من عظماء المفكرين والعباقرة، يصيب أحياناً، ويخطئ أحياناً أخرى.
إننا باستعراضنا آراء ابن خلدون نقصد تبيان الفرق من الناحية المنطقية بينه وبين غيره من الفقهاء أو الفلاسفة. فنحن لا يهمنا أن يكون الرأي من آرائه خطأ أو صواباً. المهم أن نكتشف فيه الاتجاه المنطقي..

العوامل التي أسهمت في تكوين نظرية ابن خلدون:
١- حين نقرأ ترجمة حياة ابن خلدون، كما كتبها هو بنفسه في كتاب "التعريف" نلاحظ بوضوح أنه كان واقعاً تحت تأثير نزعتين قويتين متضادتين، هما كما قال الأستاذ ساطع الحصري: حب المنصب والجاه من ناحية، وحب الدرس والعلم من الناحية الأخرى.
فابن خلدون كما يلاحظ من سيرته لا يكاد ينهمك في السياسة مدة من الزمن حتى يحاول اعتزال السياسة في نهايتها ليشتغل في طلب العلم، ثم يعود إلى السياسة مرة أخرى ليعود إلى الاعتزال بعدها.
مما يدل على أن ابن خلدون كان يعاني صراعاً نفسياً عميقاً لا يستطيع أن يتخلص منه.
فهو يحب السياسة والعلم معاً ويجد في كل منهما لذة خاصة به، فإذا انهمك في أحدهما زمناً عاوده الحنين إلى الآخر فرجع إليه.
٢- ينتمي ابن خلدون إلى أسرة عربية ذات عراقة وتاريخ معروف. وقد جاءت إلى الأندلس مع العرب الفاتحين في القرن الأول الهجري، وفي القرن السابع نزح بنو خلدون إلى إفريقيا.
ومما يلفت النظر في هذه الأسرة أنها في الوقت الذي كانت تنتج فيه أفراداً نابهين في السياسة كانت تنتج أيضاً أفراداً نابهين في العلم.
وقد وصفها ابن حيان بأنها كانت تتقلب "بين رئاسة سلطانية ورئاسة علمية".
يتبين من هذا أن ابن خلدون نشأ في عائلة كانت تراودها نزعة السياسة من جهة ونزعة العلم من الجهة الأخرى.
٣- يحدثنا ابن خلدون في كتابه "التعريف" عن العلماء والأدباء الذين تلمذ عليهم في بداية حياته. وقد تأثر باثنين منهم على وجه خاص، أولهما عبد المهيمن، وثانيهما محمد إبراهيم الآبلي، وحين ندرس حياة هذين الرجلين نراهما من طرازين مختلفين كل الاختلاف.
فعبدالمهيمن كان، كما وصفه ابن خلدون، إمام المحدثين والنحاة في المغرب. وقد لازمه ابن خلدون وأخذ عنه، سماعاً وإجازة.
أما الآبلي فقد وصفه ابن خلدون بأنه كان شيخ العلوم العقلية، وقد أخذ عنه ابن خلدون المنطق وفنون الفلسفة.
ومما يلفت النظر في الآبلي أنه كان يشتغل بالعلوم العقلية في الوقت الذي كان المغرب فيه تسيطر عليه نزعة قوية ضد تلك العلوم، وكان الناس يعدونها من قبيل الزندقة. ومما يزيد غموض الآبلي أنه كان ذا صلة بالشيعة، والظاهر أنه كان ذا نزعة شيعية.
ليس عندي شك في أن ابن خلدون سنياً شديد الإيمان بسنيته، ولكني أكاد أتلمح في ثنايا سطور مقدمته شيئاً من أثر التشيع. ولعل هذا أتاه عن طريق أستاذه الآبلي.
يبدو أن ابن خلدون كتب فصول مقدمته وهو في أطوار نفسية وفكرية مختلفة، كشأن أكثر المفكرين العظام الذين يقعون تحت تأثير نزعات متناقضة، فهم يندفعون في إحدى النزعات تارة وفي الأخرى تارة أخرى.
كان ابن خلدون يطمح إلى تأسيس إمارة أو دولة صغيرة لنفسه وأسرته، ليعيد بها مجد أسرته القديم. والظاهر أنه وجد نفسه في نهاية المطاف فاشلاً مخذولاً، فأخذ يتأمل في أسباب فشله. ويمكن القول إنه أثناء هذا التأمل اكتشف نظرية العصبية وما لها من أهمية في تأسيس الدول.
٤- من العوامل التي أثرت في تفكير ابن خلدون، العامل الذي يتصل بالوضع الحضاري العام في الإسلام. فالقرن ال١٨ الذي عاش فيه ابن خلدون كان من أسوأ القرون التي مر بها الإسلام من الناحية السياسية. فقد جاء بعد سقوط الخلافة العباسية على أيدي المغول، كما شهد تحفز النصارى للقضاء على الدويلة الباقية للإسلام في الأندلس.
لا بد للفقهاء والمفكرين المسلمين من أن يتأملوا في هذا الوضع وأن يبحثوا في أسبابه. ومن الممكن القول إن الكثيرين منهم أخذوا يميلون إلى تعليل ذلك بكون المسلمين قد انحرفوا عن تعاليم دينهم وسنة نبيهم فعاقبهم الله على ذلك بأن سلط عليهم الكفار.
يبدو أن ابن خلدون كان قد تأثر بوضع الغربة الذي حل بالإسلام في عصره، على منوال ما تأثر به زملاؤه الفقهاء. فهو مثلاً يقارن في مقدمته بين أحوال المسلمين في الصدر الأول وأحوالهم في زمانه، فيقول إنهم كانوا في الصدر الأول لا يترددون عن إفساد دنياهم في سبيل إصلاح دينهم، بينما أصبحوا في زمانهم الأخير يجرون العكس من ذلك.
ولكن ابن خلدون يخالف جمهور الفقهاء من ناحية أخرى. فالفقهاء بوجه عام يعتقدون بإمكان إنقاذ الإسلام من غربته عن طريق الرجوع إلى السنة النبوية الأولى. ولهذا كانوا يوالون الوعظ والصراخ في سبيل تحريض المسلمين على الرجوع إلى السنة.
أما ابن خلدون فكان رأيه أن غربة الإسلام أمر محتوم لا مناص منه ولا جدوى من الوعظ والصراخ فيه.

يخيل لي أن ابن خلدون كان ناوياً في البداية أن يجعل المقدمة بضع صفحات ثم يأخذ بعدها بكتابة تاريخه، ولكنه لم يكد ينتهي من تلك الصفحات حتى انفجرت قريحته وانصبت عليه الخواطر تتوالى خاطراً بعد خاطر.
مما يدل على هذا ما نجده في المقدمة من تهافت وفوضى في التبويب والتنسيق.
فهي في الواقع غير منسقة أو مرتبة في نظام أعد سابقاً، وكثيراً ما نرى فيها تكراراً مملاً ومفارقات غير مستساغة. وهذا يدل على أن ابن خلدون كتبها عجلاً تحت تأثير فيض الخاطر.
يصف الأستاذ ساطع الحصري حالة ابن خلدون النفسية أثناء كتابة المقدمة فيقول: "فإنني عندما أتأمل فيما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد، أجزم بأن توصله إلى مجموعة الآراء المبتكرة الكثيرة المسطورة في المقدمة، إنما كان حدث من جراء "تدفق فجائي"، بعد "حدس باطني".
إني أؤيد الحصري في هذا القول. ويخيل لي أن ابن خلدون أثناء انهماكه المفاجئ في كتابه المقدمة كان كالمخترع الذي تومض في رأسه فكرة خاطفة فينكب على اختراعه وهو يسأل نفسه متعجباً: لماذا لم تطرأ بباله تلك الفكرة من قبل.
تأليف ابن خلدون:
يعترف ابن خلدون أن بعض المسائل التي بحثها في مقدمته كانت قد وردت عرضاً في كتب العلماء والفلاسفة والفقهاء قبله، ولكنها كانت هناك متفرقة، ومختلطة بغيرها، أما هو فقد جمعها وجعلها أصلاً لعمله الجديد.
نلاحظ أن ابن خلدون قد استفاد من القرآن في إنشاء نظريته الاجتماعية فائدة غير قليلة، لا سيما من حيث ذم الترف وتبيان أثره في هلاك الأمم. لكنه حول موضوع الترف من إطاره الديني الذي نشهده في القرآن إلى إطار آخر هو الإطار الاجتماعي.
ابن خلدون والفارابي:
الفارابي من أكبر فلاسفة الإسلام، وقد عده البعض أكبرهم على الإطلاق. وقد كتب في الاجتماع كتاباً عنوانه "آراء أهل المدينة الفاضلة" نحى فيه منحى أفلاطون في "الجمهورية".
أرجح الظن أن ابن خلدون اطلع على كتاب الفارابي هذا واستفاد منه.
مما يدل على ذلك أننا نجد ابن خلدون يبدأ بحثه في العمران البشري بعبارات تشبه عبارات الفارابي شبهاً غير قليل. فكلاهما يقول إن الفرد من البشر مضطر في حياته إلى التعاون مع أبناء جنسه، إذ هو غير قادر على القيام بمستلزمات بقائه بمفرده.
ولكن الفرق في منهج البحث بينهما يأخذ بالظهور منذ البداية.
فالناس في نظر الفارابي إنما يتعاونون لكي يقيموا أود حياتهم أولاً، ولكي ينالوا الكمال الذي من أجله فطرت الطبيعة البشرية ثانياً.
أما ابن خلدون فلا يعترف بهذا الكمال المثالي الذي يقول به الفارابي. ففي رأيه أن البشر إنما يتعاونون لكي يحصلوا على القوت أولاً، ولكي يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم تجاه الحيوانات التي هي أعظم قوة من الإنسان ثانياً.
نستطيع أن نقول  بوجه عام إن الفارابي إنما كتب كتابه من أجل غاية وعظية. إنه يريد أن يبين للناس كيف ينالون الكمال والسعادة المطلقة.
أما ابن خلدون فقد ملأ مقدمته بوصف أحوال الناس وعاداتهم، غير أنه لم يقصد بها الذم كما فعل الفارابي، بل قصد بها أن يقول: هذه هي الأحوال التي فطر عليها الناس منذ خلقهم الله حتى يوم يبعثون، وليس في إمكان الناس أن يكونوا في المستقبل على غير ما كانوا عليه في الماضي.
وخلاصة ما نقوله في الفرق بين منطق الفارابي ومنطق ابن خلدون، إن الأول منهما يبحث في ما "هو واجب" بينما الثاني يبحث في "ما هو واقع". وذلك فرق عظيم بلا ريب.
هل كان ابن خلدون فيلسوفاً؟
ذكر ابن خلدون في كتاب "التعريف" شيئاً كثيراً عن الدروس الفلسفية التي قرأها على أستاذه الآبلي، وكان يفتخر بها. والظاهر أنه أراد بذلك أن يقول بأنه درس الفلسفة دراسة مستفيضة في أيام شبابه، واستفاد منها في شحذ ذهنه وترتيب أدلته، ولكنه يؤمن بصحة ما جاء فيها من آراء مخالفة للشريعة.
خلاصة رأي ابن خلدون في الفلسفة أنها ليس فيها سوى ثمرة واحدة هي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق