الخميس، 3 أبريل 2014

كتاب من أيام العمر الماضي





من أيام العمر الماضي،
 د. عبدالله النفيسي،
مكتبة آفاق للنشر،
(١٨٣) صفحة،
 الطبعة الأولى ٢٠١٤

الكتاب يستعرض محطات من حياة الدكتور النفيسي، عناوين فصوله، "المعادي، مانشستر، بيروت، كمبردج، جامعة الكويت، الدمام، إكستر، العين، مجلس الأمة، سنوات الاضطراب، الغزو العراقي" وللكتاب جزء ثانٍ، "من الغزو العراقي إلى الغزو الإيراني".
في هذه الساعة من النهار يضج فناء المدرسة بحركة التلاميذ؛ العاشرة والنصف أول فرصة للاستراحة.
كانت كلية فيكتوريا بالنسبة لطلبتها والقابعة في طرف حي المعادي، أهم مؤسسة في حياتهم خصوصاً الطلبة الداخلية الذين يسكنون في عنابر الكلية.
المدرسة تتبع النظام الإنجليزي في كل شيء: زي موحد بين الطلبة، "رمادي وأزرق"، الاستيقاظ في السادسة صباحاً، دوش سريع، تلميع الأحذية، ارتداء اليونيفورم والوقوف في طابور التفتيش استعداداً للذهاب إلى قاعة الطعام لتناول وجبة الإفطار الصباحي.
كل شيء في فيكتوريا كان منظماً وجيداً إلا الطعام، ربما لأن ذوق الإنجليز في الطعام - خصوصاً في الخمسينيات - كان ذوقاً رديئاً للغاية.
يبدو أن الإنجليز الذين كانوا وقتها (١٩٥١) القوة المهيمنة على المنطقة يستهدفون من وراء هذه المدارس "مثل فيكتوريا" تخريج نخبة اجتماعية وفكرية منفصلة نفسياً وثقافياً عن محيطها العربي والإسلامي لكي تستعين بها على إدارة المنطقة وفق ما تقتضيه المصالح البريطانية آنذاك.
لذلك كان هناك في المدرسة نظام صارم بعدم التحدث باللغة العربية، وعدم تشجيع أي علاقات روحية بين الطلبة والعمال المصريين العاملين في المدرسة.
في زيارة من زياراته للقاهرة، قيل لنا بأن العاهل السعودي سعود بن عبد العزيز سيزور المدرسة وعلينا التأهب لاستقباله، وبعد أن وصل الزوار وتجولوا في أنحاء المدرسة نبهه بعض الخيرين في وفده، إلى عدم وجود مسجد في المدرسة وإلى إهمال المدرسة "عمداً" لهذا الأمر فبدأت الضغوط من الحكومة السعودية على إدارة المدرسة للعناية بهذا الأمر.
وحتى قبل قيام المسجد في فيكتوريا اجتهد الأستاذ المعلم التربوي، د. يوسف عبد المعطي في قيادتنا إلى عريشة متواضعة تقع في طرف فناء المدرسة يؤمنا في الصلاة ويحثنا عليها ونحن لم نتجاوز العاشرة فكانت هذه التجربة الأولى في الانتماء الإسلامي على بصيرة وإرادة.
من عيوب الإدارة المصرية لفيكتوريا - بعد ١٩٥٦ - المبالغة نحو التوجيه السياسي لنا كطلبة.
كان نظام عبد الناصر ذا وطأة شديدة علينا كطلبة. نبدأ بطابور الصباح (تحيا الجمهورية العربية المتحدة) كل صباح لا بد من الهتاف. مع مرور الوقت والتكرار والرتابة فقد معناه ومع ذلك استمر التوجيه كما هو.
ولأن نظام عبد الناصر تحالف مع روسيا سنلاحظ أن خطاب التعليم في المدرسة - وعلى مستوى الجمهورية - كان دائم الإشادة بروسيا.
أخذونا بالباصات من المعادي في الصباح الباكر إلى ميدان عابدين في وسط القاهرة لنجد هناك الألوف من الطلبة وقال لنا العميد سعد: "حنستنى هنا لغاية ما يجي الريس ويوجه لنا كلمة".
وانتظرنا وطال الانتظار لساعات ونحن وقوف تحت الشمس وفي الزحام الشديد لا ماء ولا طعام ولا ظل.
حتى ظهر المغني "محمد عبد الوهاب" في بلكون قصر عابدين وهو يرتدي البذة العسكرية وقال لنا عبر الميكرفون: أنا حغني وانتو تردو ورايا. وبدأ (بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي) ورددنا وراءه مرة ومرتين وثلاث حتى مللنا.
وفي الساعة الثالثة بعد الظهر ظهر جمال عبد الناصر في البلكون يلوح لنا فضج الطلبة بالتصفيق والهتاف إلى حد هستيري وعبد الناصر يضحك، "لا أدري لنا أم علينا"
ومضينا سحابة العصر كله: هو يتكلم ونحن نهتف حتى بلغ فينا العطش والتعب مبلغه.
ويومها أدركت وأيقنت أن مقرر "التربية العسكرية" كان الهدف منه "سياسياً"١٠٠٪ وشعرت بالقرف من عبد الناصر والحاشية المحيطة به والقرف من نفسي ومن الطلبة لأننا احتشدنا في ميدان عابدين نهتف له. وبدأت تنمو في داخلي منذ ذلك اليوم كراهية راسخة "للزعيم الفرد" الذي يكاد يحترق من الأضواء المحيطة به.
في الغد جاءت إلى فيكتوريا ثلاث باصات تحمل كل (العمال)؟ للتصويت في انتخابات العمال؛ أخبرني فتحي وهو يبكي مساء ذلك اليوم عندما عاد من مشوار شبرا. قال: أخذونا عشان نبصم مش عشان ننتخب ويا ويلو اللي يسأل ليه؟
وأسأل: أليست هذه بلطجة على مستوى النظام السياسي الذي كان يرأسه عبد الناصر؟
فور عودتي من المعادي في يونيو ١٩٦١ إلى الكويت، راجعت "دائرة المعارف" قبل أن تصبح وزارة وذلك طلباً للابتعاث الخارجي لدراسة الطب في إنجلترا. كان أملي أن أصبح طبيباً وما زلت أغبط الأطباء عندما أحتك بهم اجتماعياً.
الحياة الدراسية في الكلية كانت عادية كنا نتلقى المحاضرات في الكيمياء والأحياء والطبيعة، وكنا هلال وأنا معتادين على الدراسة وأداء وأجباتنا المنزلية حتى خلال عطلة الأسبوع.
انضممت إلى نادي رياضي غير بعيد عنا فيه كل أنواع الرياضات تقريباً. وكانت الكنيسة تنتهز فرصة تواجد عدد غير قليل من الطلبة العرب لتعقد ندوات حول مقارنة الأديان لتبشرنا بالمسيحية ونشارك في هذه الندوات ونحولها إلى تبشير بالإسلام والعروبة.
وبمحض الصدفة وأنا في طريق خروجي من النادي دخلت مكتبة رثة لبيع الكتب المستعملة، جال نظري في العناوين وإذ بكراسة صغيرة لبرتراند رسل، بعنوان (لماذا أنا لست مسيحياً؟)
أثارت هذه الكراسة لديّ أسئلة كبيرة للغاية وخطرة، وقلت لنفسي: إذا كان هذا العجوز ينشر كراسة كهذه يشرح "عقيدته" في الإلحاد، فهل أعرف أنا لماذا أنا مسلم؟
وقررت أن أعتني بهذا السؤال: لماذا أنت مسلم يا عبد الله؟
انشرح صدري لأن اترك الدراسة في مانشستر وأعود إلى الشرق لدراسة الإسلام، لا بل الانضمام إلى كلية من كليات الشريعة الإسلامية.
وقلت لنفسي: لن ألتحق بأي جامعة حتى أشبع من القراءة الحرة وخصوصاً في الإسلاميات.
وبعد أن فشلت في إقناع كلية الشريعة (الأزهر) وكلية الشريعة (دمشق) في قبولي ورفضهم كان له مبرره المعقول لأني لم أتلقى الدراسات الأساسية للتعليم الشرعي وكذلك لغتي العربية ضعيفة جداً؛ فقررت للأسف أن ألتحق بالجامعة الأمريكية ببيروت لدراسة السياسة والاقتصاد.
في الجامعة الأمريكية ببيروت ١٩٦٣، كانت الكتب كثيرة وضخمة وثقيلة. قلت لنفسي: إنها الرأسمالية الأمريكية المتوحشة يبيعون عليك سلعاً قد لا تحتاجها. المهم الترويج والتصريف علينا نحن الشعوب المتخلفة.
الحياة السياسية والثقافية في الجامعة الأمريكية ببيروت حياة نشطة لا بل متلاطمة من كثرة النشاط
تعجبني بيئة كهذه لأني مجبول على كراهية الحياد والمحايدين ووجدت نفسي وبدون تردد ولا تلعثم منحازاً للإسلاميين، لأسباب عديدة:
أولاً: تحليهم في الفترة الناصرية بشجاعة في مواجهة التضليل السياسي.
ثانياً: شخصيتهم المحافظة والمحتشمة الحيية والجادة.
ثالثاً: التزامهم على صعيد فردي بالأوامر والنواهي الشرعي الإسلامية.
توطدت علاقتي بحسن الترابي آنذاك إلى درجة أنه كان لا يتردد في المبيت في منزلي حال زيارته للكويت..
لكنني لن أغفر للترابي ما بقيت معانقته لصدام حسين ١٩٩٠ بينما كنا في الكويت نعاني من إرهابه ووحشيته وبدائيته..
أكره الحياد والمحايدين؛ وأميل إلى الشخصية الحارة والحركية ولا أحمل كثير احترام للشخصية الباردة غير المتفاعلة تحت مسمى التريث والحذر والتأني.
لم أجد أفضل من الإسلاميين كرفقاء سيكولوجيين، أكثر منهم "كتلة حزبية"، رفقاء يعانون من الاغتراب الاجتماعي والثقافي في بيروت الستينيات التي تضج بالبذاءة والتكشف والفرانكوفرنية..
خلال الأربع سنوات التي قضيناها في الجامعة الأمريكية في بيروت احتكينا مع اللبناني بكافة أشكاله وألوانه وأديانه ومهنه ومستوياته وطبقاته. ثمة خيط مشترك تجمع هؤلاء: البراجماتية والعملية والاستعداد للتفاوض والتأقلم ولا وقت للأنين وكيف ننتقل إلى الخطوة التالية وثم ماذا؟
فور أن وصلت إلى الكويت ١٩٦٧، ذهبت لزيارة جامعة الكويت والمسؤلين فيها وزيارة قسم العلوم السياسية هناك، لإبداء رغبتي في الابتعاث للخارج لاستكمال دراساتي العليا وصولاً للدكتوراة والانضمام لهيئة التدريس في القسم المذكور.
أحلى ما في لندن في تلك الفترة الحدائق العامة: هايد بارك وريجنت بارك بالذات. خضراء على مد البصر تستطيع أن تمشي لساعات فيها دون أي إزعاج.
أما عجيبة العجائب عندنا نحن العرب الذين نكتوي بنار الطغيان العربي فهو زاوية الخطباء في الهايد بارك، حيث يقف أي إنسان بريطاني كان أو غير بريطاني ليقول ما بدى له من قول في أي موضوع شاء.
من المؤسسات المهمة التي تعرفت عليها في لندن (سكن الطلاب المسلمين) الذي يؤوي الطلبة المسلمين المنحدرين من بلدان إسلامية عديدة عربية وغير عربية. وكان من اللافت للنظر أن المسلمين إذا وضعوا في البيئة الصح تظهر عبقرياتهم ونزوعهم الفطري للسلوك الرشيد. ولاحظت أن الطلبة المسلمين غير العرب لا يضيعون أوقاتهم في الخلافات الحزبية والفئوية كما يفعل العرب عموماً.
كان سروري بالعودة إلى الكويت لا يوصف. وأخيراً - قلت لنفسي - ها قد عدنا للوطن والأهل والاستقرار.
كان يرأس قسم العلوم السياسية أ.د. إبراهيم صقر، وهو مع تقديري ذو نزعة ناصرية مع مسحة يسارية وكانت تدور بيني وبينه حوارات ماتعة في مكتبه حول عبد الناصر والناصرية واليسار "المصري بالذات" وكنا نختلف لكن الرجل كان يتمتع بروح طيبة فيها كثير من السماحة والأبوة.
أبديت له رغبتي في أن أضيف إلى مقررات القسم مقرراً جديداً وهو "الفكر السياسي الإسلامي"، وأن ألتزم شخصياً بتدريسه فوافق على الفور.
استقطب هذا المقرر عدداً كبيراً من الطلبة والطالبات وكنت أشدد في التدريس على أننا أمة كبيرة تمتد ما بين نواكشوط وجاكرتا ولذا لا بد من إحياء مرجعيتنا الفكرية وخصوصاً في علم السياسة. وأنه من العبث تدريس مقرر (نظام الحكم في الكويت) ونغفل عن القاعدة العلمية والفكرية لنظام الحكم في الإسلام.
وقف أحد الطلبة وسألني: ما حكم المخصصات الشهرية التي يتلقاها أبناء الأسرة الحاكمة وأعدادهم بالألوف؟ قلت له: أقول وبالله التوفيق أنه ليس من حقهم هذا المال ولا تجوز شرعاً هذه الممارسة.  في مساء ذلك اليوم جاء إلى منزلي من أبناء الصباح ويعمل في الديوان الأميري وقال لي: أنا مكلف من الشيخ (ج. أ. ص) لاستوثق منك شخصياً أنك قلت في محاضرتك اليوم أن المخصصات التي تصرف لأبناء الصباح شرعاً لا تجوز وليس لهم حق في المال العام؟ فقلت له: نعم قلت ذلك. فقال: هل أنقل هذا التأكيد للشيخ؟ فقلت له: أنقله ولك الشكر.
قراران في حياتي ندمت عليهما أيما ندم. الأول تركي لدراسة الطب في مانشستر وعدم المضي بها والتخرج كطبيب، والثاني دخولي إلى مجلس الأمة ١٩٨٥


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق