الجمعة، 26 يوليو 2013

كتاب (الطريق إلى الإسلام)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الطريق إلى الإسلام، محمّد أسد، ترجمة عفيف البعلبكي، دار العلم للملايين



 

لقد كان طريقي إلى الإسلام غريباً من نواحٍ متعددة: فأنا لم أصبح مسلماً لأني عشت زمناً طويلاً بين المسلمين، بل كان الأمر عكس ذلك، ذلك أنني قررت أن أعيش بينهم لأني اعتنقت الإسلام.

***
إن الجزيرة العربية التي سأرسم صورتها في الصفحات التالية قد زالت من عالم الوجود. لقد تحطمت عزلتها ووحدتها تحت نهر قوي من النفط والذهب الذي جلبه النفط. لقد تلاشت بساطتها العظيمة، كما تلاشى معها الكثير مما كان نسيج وحده في عالم الانسان.

**
قررت أن أزور واحة تيماء النائية الضاربة في القدم، على نحو مئتي ميل إلى الجنوب الغربي: تيماء التي ورد ذكرها في العهد القديم والتي قال عنها أشعيا:"لقد كان سكان أرض تيماء يجلبون الماء إلى كل من به ظمأ".

**
الحياة بجلالها وعظمتها.. إنك لتحسها دائماً في الصحراء. وإذ كان من الصعب جداً الاحتفاظ بها هناك، فهي بمثابة الهبة أبداً عزيزة دائماً، كالكنز الثمين، تفجأك وتأخذك على حين غرّة.

**
الصحراء لا يمكن إلا أن تُحيرك وتدهشك، وتقع عيناك فيها على جديد ولو كنت قد خبرتها سنين طويلة.

**
الحياة بجلالها وعظمتها: جلال الاتساع والامتداد، وعظمة المفاجأة. هنا، في هذه الصحراء، يفوح شذى بلاد العرب، وتظهر روعة التبدل.

**
وإنك لتحس نداء الحياة في أيام العطش، عندما يلتصق لسانك بسقف حلقك كقطعة من الحطب اليابس، ولا تظهر في الأفق أية علامة من علامات الخلاص، بل ريح سموم عاتية ورمال مدومة في الجو.

**
ابن سعود"، الذي يناديه البدو دائماً باسمه، عبدالعزيز، مجرداً عن أي لقب أو كنية، لأنهم في إنسانيتهم الحُرّة، لا يرون في الملك إلا انساناً من الناس، واجب تكريمه غير شك، ولكن في أهلية الانسان وجدارته.

**

لقد كانت صداقة بن سعود لي، طيلة السنوات التي قضيتها في الجزيرة العربية، تنير جوانب حياتي كلها. إنه يدعوني صديقه، بالرغم من أنه ملك، وأني مجرد صحافي ليس غير.

**
قُدّمت للأمير -الشاب- فيصل بن عبدالعزيز، وقد صافحني، وعندما انحنيت له، رفع رأسي برفق بأصابعه، وأضاءت ثغره ابتسامة حلوة، وقال: "نحن معشر النجديين لا نؤمن بأن على الانسان أن ينحني للإنسان، بل لله وحده في الصلاة".

**
بينما كان الملك يتابع بهدوء الاملاء على الكاتب، أخذ في الحديث معي، دون أن يخلط بين الاملاء والحديث معاً. وبعد أن تبادلنا قليلاً من العبارات التي تقتضيها اللياقة، ناولته كتاباً لتعريفه بشخصي فقرأه، وهذا يعني أنه كان يؤدي أعمالا ثلاثة في وقت واحد ثم أمر بالقهوة دون أن يتوقف عن الاملاء أو الاستفسار عن صحتي.

**
زودني الملك بالهجان والمؤونة، بخيمة ودليل، وخرجت إلى الرياض سالكاً طريقا غير مستقيم فوصلتها بعد شهرين. وكانت تلك أول رحلة قمت بها داخل بلاد العرب، رحلة تلتها رحلات، امتدت سنوات، ما اسرع انقضاءها، انفقتها في كل جزء من بلاد العرب.

**
وإذا كنت متمدداً فوق الرمال وتحت عباءتي التي كانت الريح تتلاعب بها، خيل إليّ أن زمجرة العاصفة الرملية كانت تردد صدى ذلك الغناء: "إنك لن تبقى غريباً بعد الآن". لم أعد غريباً: ذلك أن جزيرة العرب قد أصبحت وطني.

**
إذا كان لي أن أفهم الأمر على حقيقته، فإن هذا الحنين إلى اكتشاف الذات هو الذي ساقني عبر السنين، إلى عالم يختلف تمام الاختلاف، من حيث أحاسيسه وأشكاله الخارجية معاً، عن كل مصير رسمته ولادتي ونشأتي الأوربيتان.

*
*
لقد مضى علي ثلاثة أيام لم أذق فيها قطرة من الماء وهجيني قد شرب لآخر مرة منذ خمسة أيام. قد يستطيع أن يحتمل الظمأ يوما آخر أو يومين، أما أنا فإني أعرف أنني لن أستطيع. لربما فقدت عقلي قبل أن أموت.

**
أن التجرد من النهم والجشع معناه التجرد من التخوف، وأن الانسان إذا تخطى الخوف فإنه يتخطى الخطر كذلك، عارفا بأن ما يحدث له مهما كان، ليس إلا ذلك الشيء الذي هو قسم منه.
**
أن كل ما يصيبني هو جزء من ذلك الفيض الكلي الشمول الذي أنا جزء منه. وهل يمكن أن يكون الخطر والأمان، والموت والمتعة، والمصير والفوز إلا وجوها مختلفة من هذه الكتلة الدقيقة العظيمة التي هي أنا؟ أية حرية لا متناهية، يا رب، تلك التي منحتها الانسان!
**
كنا على مسير ستة أيام أو سبعة جنوبي الرياض عندما انتابت ذلك الدليل، وكان بدويا متعصبا، نوبة من الغضب إذ أوضحت له عمل آلة التصوير التي كانت في حوزتي آنذاك. لقد أراد أن يتركنا هناك، وفي ذلك الوقت بالذات، لأن مثل ذلك التصوير الوثني يعرض روحه للخطر.
**
هل يستطيع أيما انسان أن يفهم حقاً معنى حياته الخاصة ما دام في قيد الحياة؟ لا يمكن للمقدر أن يكشف عن نفسه إلا في نهاية الطريق، ويجب دائماً أن يبقى مغلقاً غير مفهوم فهما صحيحاً أو نصف مفهوم ما دمنا سائرين في الطريق.
**
منذ عامين، عندما اتخذت لي زوجة عربية في المدينة، أردتها أن تنجب لي صبياً، وعن طريق هذا الصبي، طلال الذي رزقنا به منذ بضعة أشهر، بدأت أشعر بأن العرب هم أنسبائي مثلما هم إخواني في الإيمان. إنني أريد أن يمد جذوره عميقاً في هذه الأرض، وأن يترعرع واعياً عظمة آبائه وأجداده من حيث الدم والثقافة.
**
منذ أتيت إلى الجزيرة العربية لا أزال أعيش كما يعيش العربي. لقد أرتديت الثياب العربية، ولم أتكلم سوى اللغة العربية، ولم أحلم إلا بالعربية، بصورة لا شعورية تقريبا، كيفت أفكاري ولم تحيرني تلك التحفظات العقلية التي تجعل في العادة من المستحيل على الأجنبي، مهما كان عارفاً بلغة البلاد وعاداتها، أن يجد الطريق الصحيح إلى مشاعر أهلها، وأن يجعل من عالمهم عالمه الخاص.

**
كانت العلوم الرياضية والطبيعية بصورة خاصة تجلب إلى نفسي الملل والسأم، وكنت أجد لذة لا حد لها في قراءة القصص التاريخية المثيرة، ثم في قراءة الشعر والفلسفة، وكانت أعاجيب الجاذبية والكهرباء، كقواعد اللاتينية واليونانية سواءً بسواء، لا تحرك في أيُّما حس، وكانت نتيجة ذلك كله أني لم أكن اجتاز الصف إلا بشق النفس.
**
وبمقتضى تقاليدنا العائلية، كنت قد درست، على أيدي أساتذة خصوصيين، العلوم الدينية العبرانية بتعمق كبير، ولم يكن مرد ذلك إلى أي ورع بارزٍ امتاز به أبواي، ذلك أنهما كانا ينتميان إلى جيل يخضع باللسان فقط إلى هذا أو ذاك من المعتقدات الدينية التي سبكت
حياة أسلافه وفي الوقت نفسه لم يسع قط إلى أن يعمل في حياته العملية أو حتى في تفكيره الأخلاقي، بمقتضى تلك التعاليم.
**
كان العلم يقول: "المعرفة هي كل شيء"، ونسي أن المعرفة دونما هدف أخلاقي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الفوضى والغموض.
**
كم من ليالٍ قضيتها في مقاهي فيينا منصتاً إلى المناقشات المثيرة بين رواد التحليل النفسي الأولين أمثال الفرد ادلر وهرمن وأوتوجروس. ولكن في حين أنني لم أشك قطعاً في صحة مبادئ ذلك العلم الجديد التحليلية فقد أقلقني تكبره العقلي الذي كان يحاول أن  يصغر كل أعاجيب النفس الإنسانية إلى سلسلة من الإرجاع العصبية التناسلية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق