الخميس، 11 يوليو 2013

كتاب (حصاد السنين)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 
 
أحس الكاتب أنه، وقد بلغ الخامسة والثمانين من عمره، وانتابته عوامل الضعف والمرض، أنه
 قد اقتربت سيرته الثقافية من ختامها، مما أوحى له بأن يكتب هذا الكتاب ليقدم به
 إلى قارئه صورة للحياة الثقافية كما عاشها أخذاً وعطاء.
***
الفرق الحقيقي بين مجتمع جمدت دماؤه في شرايينه فتخلف عن موكب الحضارة، ومجتمع
 آخر توقدت فيه الصحوة وتوثبت الهمم، هو فرق بين مجموعة الأفكار التي حصلها
 واختزنها أفراد الناس في كلٍ من الحالتين.
***
أن دنيا "الأفكار" التي يحياها من يحياها من أفراد الناس، الذين وجدوا في أنفسهم ما يميل بهم نحو الاهتمام "بالفكرة" والاحتفال بها، لا تقتضي العزلة الكاملة عن الحياة اليومية الجارية، وما تقتضيه هذه الحياة من عمل وأداء للواجبات الاجتماعية وانتماء إلى الوطن الكبير. لكنها تعني أولوية "الفكرة" على قضاء المصالح المادية في تيار الحياة العملي.
***
أن يكون لعالم "الأفكار" أولوية وأعلوية على عالم الأشياء. ليس ذلك استغناء عن عالم الأشياء
 كلا، بل هو من أجل أن نفهم عالم الأشياء فهماً أدق وأصدق.
***
أن صاحبنا لا يملك منع نفسه من محاولة "التعليل" لأي شيء يستلفت نظره في ظواهر الحياة
 كما يراها متمثلة في مسالك الأفراد أو الجماعات. إنه يبحث لكل ظاهرة سلوكية عما
يفسرها، وهو بحث يتم أكثره في صمت، ويخرج أقله إلى العلانية قولاً منطوقاً
في أحاديثه مع من يجالسهم، أو كتابة منشورة ليقرأها من أراد.
***
كم ألف مرة سمع من الناس ما يؤلمه ويؤذيه. ولو كان من غمار الناس لقلنا إن العدوان
 هو من طباع الغمار، ولكنهم كانوا -أو كان بعضهم- من الصفوة التي امتازت بثقافتها، مما
 كان لا بد من أن يلتقي بهم خلال حياته التي غلبت عليها صلات اجتماعية في مجال
 الثقافة، بالإضافة إلى زملاء العمل في الجامعة.
***
إن الكتاب المقروء هو إنسان يتحدث إلى قارئه بأحسن ما عنده من مادة للحديث!
إن الوحدة العددية لمن يعتكف، وأعني حين يكون الانسان في هدوء عزلته، ليست بالضرورة
 غربة يغترب فيها عن الناس وما يحيون به ويفكرون فيه، بل إنها كثيراً ما تكون هي
 الفرصة الذهبية للاتصال بخيرة الناس يستمع إليهم فيما يقولونه شرحاً لأفكارهم
 وتعبيراً عن وجدانهم.
***
إذا تذكرنا أن اللغات الأوروبية ينقل بعضها عن بعض أهم ما ينتجه المبدعون في كل
 ميدان، أدركنا أن معرفة لغة أجنبية واحدة تكفي صاحبها ليلم بجانب الثقافة
الأوروبية – والأمريكية بعد ذلك- أيّاً ما كان مصدرها.
***
فكرة "التقدم"، هو أن يكون بين مسلماتنا الثقافية اعتقاد بأن الحاضر –دائماً- أفضل
 وأكمل من الماضي، اللهم إلا في عصور النكسات التي تتجمد فيها حركة التاريخ، أو تشتد
 النكسة فيرتد التاريخ منكفئاً على ماضيه.
***
كانت هناك فجوة عميقة بين الصحائف كما كتبها كاتبوها، وبين واقع الحياة الجارية. ولقد
 أسلفت نبأ الرحلة التي ارتحلها صاحبنا بعد تخرجه بعامين إلى مدينة القدس، وكيف كان
 أول ما فوجئ به هناك أن ثمة قضية عربية كبرى يُكتفى فيها بأن يُشار إليها مقيدة
بأداة التعريف، فيُقال: "القضية" ويفهم الناس إلى أي شيء تشير، ولم يكن صاحبنا
قد قرأ عنها حرفاً فيما قرأ، وهو ممن كانوا يتابعون بالقراءة المتصلة كل ما كان ينشره
 روادنا. فهل كتبوا عن القضية العربية وأفلت منه ما كتبوه؟ هذا جائز بالطبع، لكنه ظن
 يومئذ أن ذلك أمر بعيد الاحتمال.
***
أن روادنا شغلهم ما ينقلونه تلخيصاً من الكتب، عمّا تجري به حياة الناس من فواجع.
 أن جبابرة الكلمة في شبابه إنما كانوا يكتبون بعقولهم، وأما قلوبهم وما تؤمن
 به، فكانت متخلفة هناك، تنبض بما كان سائداً مما زعموا أنهم إنما كتبوا ليغيروه.
***
لم يكن صاحبنا ذا مزاج سياسي بالمعنى الذي نراه متحققاً في الساسة المحترفين، فكانت
 المشكلات السياسية عنده تتحول إلى مشكلات فكرية نظرية، فهو كثيراً جداً ما يأخذه
 العجب مما يسمونه "سياسة" لكثرة ما يراه فيها من مجافاة لمنطق العقل، وحتى
 إذا حدث له أن أبدى رأياً كهذا في موقف معين، قال له المحترفون: إن هذه هي "السياسة".
***
كان من أندر النادر في مجتمعنا، الذي لا نستثني معه أعلامنا الرواد، أن يجئ الحق إلى صاحبه
 بقوة الحق وحدها: فإما أن تعامل الناس والعصا في يدك، واللفظ الخشن بين شفتيك، وإما
أن يُصيبك الاهمال إلا أن يتولاك ربك برحمته وعدله. ولم يكن صاحبنا قد عرف الطريق
 إلى العصا، ولا اعتاد لسانه اللفظ الغليظ لينطق به في حينه فيستريح، حتى وإن أفلتت
 منه وسائل النجاح.
***
كثيراً ما كان صاحبنا يذكر رأيه لأصدقائه وقرّائه، بأن الاسراف في قيمة "السلطة" عند
 مواطنيه، هو العلة الأولى في حياتهم، لو استطعنا أن نقلل حب التسلط لننزل من ذروته
 في سلم القيم عندنا –لانزاح عن صدورنا كابوس ثقيل.
***
بينما ترى الواحد منهم وقد أوشكت حروف كلماته أن تشتعل بحرارتها دفاعاً عن
 الحرية، والمساواة، والعدالة.. تنظر إليه في ساحات التعامل الفعلي يذل للكِبار بقدر
 ما يستبد بالصغار.
وقد رأى صاحبنا بعينيه وسمع بأذنيه كيف لا يُطبق حماة الحرية الفكرية أن يروا
من هم دونهم وقد استباحوا لأنفسهم ذلك الحق نفسه.
***
فكرة "الحُرية"، من قبل أن تكون فكرة يتناولها العقل بالتحليل والتدليل كانت منذ
 كان على الأرض انسان، حنيناً نحو أن يملك الانسان قيادة نفسه في اختيار هذا وترك
 ذاك، وفي ازالة ما عساه مصادفة في طريق الحياة من عوائق وعقبات.
***
أن فكرة "الحرية" في بلادنا، حتى عند أكثر المثقفين، ضاقت حدودها بحيث كادوا
يقصرونها على التخلص من قيود الطاغية، بالمعنى السياسي في أغلب الأحيان.
 ومثل هذه النظرة الضيقة تضلهم في وهم كبير، إذ تجعلهم يتوهمون أنهم قد
باتوا أحرار وما هم في حقيقة أمرهم بأحرار.
***
الحرية في صميم معناها هي القدرة على العمل في الميدان الذي نريد أن نكون أحراراً فيه.
ومعنى ذلك هو أن الحرية مستحيلة بغير علم بتفصيلات العمل الذي تزعم لنفسك أنك
حُرّ في مجاله.
***
ربما كان تخفف الأمريكي من عبء التاريخ الطويل بما يفرضه من قيود، وتخففه –بالتالي-
 من "هوية" خاصة محددة القسمات، هو الذي جعله أقدر من سواه على التفكير المبتكر
 غير المقيد بأعراف وتقاليد، ومن ثم فقد كان الأمريكي قبل غيره مسئولاً عن تشكيل
"العلم" في شكله التقني الجديد. ولا ينفي هذه الحقيقة أن تكون أوروبا قد شهدت
 على أرضها بعض البواكير على ذلك الطريق الجديد.
***
العلم هو العنصر الوحيد، الذي "يتقدم" بمعنى أن يجيء حاضره أصح من ماضيه، وذلك لأنه
 هو العنصر الوحيد الذي يتراكم وينمو، والخطوة اللاحقة منه تصحح الخطوة السابقة؛ فعلماء
 اليوم لا بد أن يكونوا أكثر علماً وأصدق وأدق من جميع العلماء السابقين. وأما غير العلم
 من سائر المقومات الحضارية والثقافية، فليس في أي منها ما يمنع أن يكون السابق أسمى
 منزلة من اللاحق.
***
نحن قادرون على اصطناع المنهج العلمي الدقيق عندما نكون في غرفة البحث
 العلمي، ولكننا كذلك قادرون على خلع الرؤية العلمية منذ اللحظة التي نترك فيها
غرفة البحث العلمي، تماماً كما نخلع ثياب العمل بعد عودتنا إلى منازلنا.
***
إنه لا عجب أن تعرض "العقل" ويتعرض في حياتنا لأزمات لا تنتهي. فللرأي العام عندنا قوة
 ضاغطة، لا يجرؤ على عصيانها علناً إلا مغامر. وهو رأي عام تسوده اللاعلمية، فانشر فيه
 من الخرافات ما شاء لك خيالك أن تنشر، وأنت في ذلك بمأمن من الخطر.
***
أن تدريب المتعلم على منهج التفكير المنتج، خير ألف مرة من مضاعفة المادة العلمية
 المحصلة، لأن مقدار ما يحصله الدارس من مادته العلمية مهما كثر فهو قليل، وأما من
 زود عقله بمنهج التفكير العلمي، فهو قادر أبداً على أن يلتمس الطريق الصحيح، كلما
أشكل عليه أمر يتطلب له حلا.
***
أن مزيداً من التدريب على منهج التفكير العلمي مع قدر معقول من المادة العلمية، خير من
 شحن الذاكرة بمحصول كبير محفوظ، ومعه قدرة متواضعة من منهج التفكير.
***
ليس المهم في الفلسفة ماذا يكون موضوع البحث، بل المهم هو المنهج الفكري الذي
 ينصب على أي موضوع يختاره الباحث، ليتقصاه  إلى مصادره وأصوله الأولى.
ولا نعني أن نتعقب تاريخه، بل نعني أن نتعقب منطق وجوده وكيانه.
***
الفقر في ابداعنا الفكري لا بد أن يُثير سؤالاً، وهو السؤال الذي وجده صاحبنا منذ
 أواخر الأربعينات مطروحاً ويتطلب الجواب، وأعني السؤال الذي يسأل: ما الذي أحدث
 فينا عندئذ عقم التفكير فامتنع الابداع، ولجأنا إلى الأخذ، عن أسلافنا مرة، و عن الغرب الحديث مرة؟
***
ما أكثر ما تكون الحقيقة الضائعة ماثلة بين يديك ولا تراها، لا عن علّة في البصر، ولكن
 لأنك لم تعرف كيف توجه البصر توجيهاً سديداً.
***
بأي متجه فكري تسير الأمة العربية في حاضرها؟
والإجابة السريعة عن هذا السؤال، هي أن الأمة العربية لا تلتقي على هدف فكري
 واحد، كما كان ينبغي لها أن تفعل وذلك يفسر أزدواجية من الازدواجيات الكثيرة
التي تكتنف حياتنا، وأعني بها أزدواجية "الحضارة" من جهة و"الثقافة" من جهة أخرى.
***
هي صفة واحدة، لو أُتيح لها أن تشيع في جماعة من الناس اتساعاً وعمقاً، لكانت
وحدها كفيلة بأن تحقق لتلك الجماعة قفزة جبارة إلى أعلى وإلى أمام في وقت
واحد، ألا وهي صفة "الصدق".
***
أمعن النظر ملياً فيما يطلب من المؤمن الصادق في إيمانه، من مطابقة سلوكه
 وردود أفعاله إزاء ما يحيط به من أحداث ومؤثرات تجد صدق الإيمان ليس هنة هينة يسيرة التحقيق.
***
إن بين "الحضارة"، و"الثقافة" –فكراً وفناً وأدباً- حركة جدلية لا تنقطع. فالرؤية الثقافية تتغير
 لسبب أو لآخر، لتتغير معها متجهات الانسان ومنجزاته. ومجموعة المنجزات التي تنشأ في مناخ
 متجانس موحد الهدف، هي "الحضارة".
***
أن أمتنا أمة يغلب الوجدان على رؤيتها، ولا تفرق بين ما قد خلق ليرضى عنه القلب
والعاطفة، وما خلق للعقل وإرادة التغيير، فأطلق العربي قلمه كاتباً ولسانه ناطقاً بما
تستريح له الآذان، بقدر ما ضيق المجال أمام العقل ووسائله في دقة التفكير واحكام التخطيط.
***
إن اسم "المعرفة" إنما يُطلق على غير مسماه، إذا اطلقته على خليط من معلومات غامضة
ومهوشة، مما يتعلق بالمجال الذي تتوهم أنك قد درسته، ومارسته، وعرفته.
***
لا يكون الصواب هو أن يقول المؤمن إن لي ديناً فيه العلم، وإنما الصواب هو أن يقول إن
 لي ديناً، وعلماً محكوماً بقيم الدين.
***
الانسان –كل انسان، وأي انسان- هو بمثابة جهاز حي عبئ بمعلومات أخذ يجمعها من
خبراته معلومة معلومة كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة أو جزء من دقيقة.
***
خدعنا أنفسنا بإيهامها بأننا كلما غرسنا في أرضنا فسيلة مجلوبة من نبات الغرب، ونمت
 الفسيلة شجرة نتفيأ ظلها ونجني ثمارها، بأننا متساوون مع باذر البذرة الأوى هناك.
***
لم تكن المراحل التي اجتازها صاحبنا خلال سنوات عمره، منفصلا بعضها عن بعض
بخطوط حادة، بحيث جاءته المرحلة التالية بما وجده جديداً كل الجدة بالنسبة لما خبره
في المرحلة التي سبقتها. كلا بل إن "الحياة" في أي صورة من صورها، لا تعرف تلك الفواصل
 الحادة بين مراحل النمو.
***
ليست العبرة بكثرة المحصول الفكري، بل هي بوضوح ما قد حصله الانسان من أفكار.
***
لو كانت جهود صاحبنا المتصلة ابان عقد الخمسينات بصفة خاصة لتُختَصر تحت عنوان
واحد، لكان ذلك العنوان هو  "في سبيل الوضوح".
***
إن الأساس الأول الذي تستند إليه الحركة الفكرية كلها عند صاحبنا، كان ولا يزال، التمييز
 الحاد بين قدرتين مختلفتين على الادراك عند الانسان بصفة مُطلقة: أولاهما ادراك
 مباشر، والثانية ادراك غير مباشر.
***
همومنا الحضارية والثقافية كثيرة، وكذلك منجزاتنا وأمجادنا كثيرة، فكيف السبيل إلى جمع
عناصر القوة في كياننا ورؤانا مع التخلص من عوامل الضعف في ذلك الكيان وهذه الرؤى لينشأ
لنا العربي العصري الجديد؟ هذا هو السؤال الذي حاول صاحبنا بكل حياته الفكرية أن يجد له الجواب.
للاستماع لملخص الكتاب على بودكاست ورّاق
waraqcast.com
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق